نفي التجويع: إسرائيل وأميركا وتبييض صورة الاحتلال ..مصطفى إبراهيم

غمرني أمس شعور بالقهر. حزنٌ عميق على ما وصلنا إليه من يأس وهوان، من استجداء “لأمة عربية نائمة”، ومن تسليم مخزٍ لتجريدنا من إنسانيتنا وسط طوفان من الأكاذيب، وتواطؤ يتستر خلف “العمل الإنساني”، وكسلٍ فكري بات يُعامل كأمر طبيعي في هذا البلد.
في الوقت الذي تتفاقم فيه حرب التجويع في غزة، وتنهار القدرة على تأمين الغذاء، تتصدر دولة الاحتلال الفاشية المشهد بـ”هدن إنسانية” دعائية، تُسوّق لها واشنطن كدليل على “التحسّن”. لكن الحقيقة أن هذه الهدن جاءت بضغط أميركي، ليس رحمة بالفلسطينيين، بل لحماية صورة دولة الاحتلال الفاشية المهتزة. وهي بحاجة إلى شرعية دولية، وأميركا بحاجة إلى ذرائع أخلاقية تغطي تغطي شراكتها في الإبادة.
داخليًا، يهاجم مسؤولون أمنيون إسرائيليون هذه الهدن بزعم أنها تُضعف ورقة الضغط على حماس في مفاوضات تبادل الأسرى. أي أن الغذاء في نظرهم أداة ابتزاز، لا حق إنساني.
وفي تصريحات واضحة، قال نتنياهو إن إدخال الحد الأدنى من المساعدات هدفه إنجاح الحرب، لا وقف الجوع.
وعلى الأرض، لا شيء يتغير. الشاحنات تُسرق، الفوضى تحكم، والناس جائعة.
حتى المساعدات التي تدخل لا تكفي، ولا تُوزّع بعدل. المفارقة أن الشاحنات التي تدخل عبر “زيكيم” تُنهب في وضح النهار، ويُقتل الناس في صفوف الانتظار، بينما المساعدات التي تمر عبر “جمعية غزة الأميركية” تُدخل بهدوء وبدون معوقات، ولكن الناس يموتون أيضًا، وإن بصمت ومن دون صور. في الحالتين، الجوع واحد، والموت واحد، والكرامة مهدورة.
وكل حديث عن “تحسّن” هو كذبة مفضوحة. الواقع أقسى: قطاع منهار، مجتمع يتفكك، ويأس يتعمّق.
في هذا السياق، صعّدت دولة الاحتلال حملتها ضد الأمم المتحدة، متهمة إياها بالتقصير، بل بالتسبب في المجاعة. ادعاءات سخيفة، تفنّدها حتى الصحافة الإسرائيلية. صحيفة “هآرتس” أكدت أن الجيش هو من فكك المنظومة الإنسانية الأممية، وأنه يمنع حركة القوافل، ويغيّر مساراتها، ويعرقل التوزيع. الأمم المتحدة لا تملك سلطة ميدانية في غزة؛ السلطة الحقيقية بيد جيش الاحتلال.
ما يحدث ليس فشلاً إنسانيًا، بل سياسة. التجويع ليس عرضًا جانبيًا للحرب، بل أداة ممنهجة تستخدمها دولة الاحتلال للضغط والترويض والإخضاع. وكل من يبرر هذا، أو يصمت عليه، شريك في الجريمة.
غزة اليوم تستغيث، لا بالعالم فقط، بل بما تبقّى من ضمير. الرهان على “أمة أصبحت ميتة” صار فعل عبث. لم تعد تكفي بيانات الشجب، ولا صور الإنزال الجوي التي لا تُشبع طفلًا واحدًا. كل ما يُعرض على الشاشات هو تبييض لجريمة مستمرة، تشارك فيها إسرائيل وأميركا وأذرعهما الإعلامية، بينما الناس تموت على الهواء بصمت، والجوع كافر، والصبر نفد.