قراءة في مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية في البحرين عام 2003

* الاختلاف المذهبي ليس مصدرًا للصراع.. بل فرصة لإثراء الفكر الإسلامي
* أكثر من ٣٠٠ عالم ومفكر من ٤٠ دولة مثَّلوا جميع المذاهب الإسلامية
* المؤتمر كان نقطة تحوُّل في الحوار المذهبي.. وأصبحت توصياته مرجعًا لمؤتمرات لاحقة
* المؤتمر لوحة فسيفسائية أخَّاذة لتحويل “حوار المذاهب” إلى واقع ملموس
المنامة في 17 فبراير /بنا/ في ظل ظروف إقليمية ودولية دقيقة ومعقدة، وبرعاية سامية من حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه، استشرفت مملكة البحرين المستقبل، وبادرت إلى عقد مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية يومَيْ ٢٠ – ٢٢ سبتمبر من العام ٢٠٠٣م، كفعالية استثنائية رائدة سعت إلى تجسير الفجوات بين المذاهب الإسلامية، وتعزيز الحوار كمنهج للتعاطي والتفاهم في الأمة.
جاء المؤتمر لتعزيز فكرة أن التباين المذهبي لا يجب أن يكون مصدرًا للصراع، بل فرصة لإثراء الفكر الإسلامي. وقد حملت البحرين، بتركيبتها السكانية المتنوعة، رسالةً رمزيةً باحتضانها للحدث. ففي قلب منطقة الخليج العربي، تمثل البحرين نموذجًا متميزًا للتنوع الاجتماعي والثقافي، حيث يجتمع السكان من مختلف الأديان والمذاهب والخلفيات تحت مظلة واحدة من الاحترام المتبادل والعيش المشترك. هذه التركيبة لم تكن مجرد انعكاس للتاريخ والجغرافيا، بل أصبحت رمزًا عالميًا لروح التسامح والانفتاح.
فالتعددية في البحرين ليست مجرد واقع ديمغرافي، بل هي عنصر أساسي في بناء الهوية الوطنية، حيث تسعى الدولة والمجتمع إلى تحويل هذا التنوع إلى قوة دافعة لتحقيق الوحدة والانسجام. والبحرين، بتجربتها الفريدة، ترسل رسالة إلى العالم بأن التعايش السلمي ممكن عندما تسود قيم الحوار والاحترام.
لقد تمحورت أهداف المؤتمر حول: تحقيق وحدة الأمة، ونبذ الفرقة والخلاف، واستكمال بناء نهج التقريب، وتفعيل دور المؤسسات الدعوية والعلماء في إبراز هذا النهج، وتوعية المسلمين عبر وسائل الإعلام المختلفة بأهمية الوحدة الإسلامية. وشارك فيه أكثر من ٣٠٠ عالم ومفكر من ٤٠ دولة، مثَّلوا جميع المذاهب الإسلامية، بالإضافة إلى ممثلين عن كبرى المؤسسات الإسلامية.
وتناولت محاوره ضرورة العمل على وحدة الأمة ونبذ الفرقة والخلاف، وثقافة التجديد وأدب الحوار في الإسلام، ومتطلبات وآليات التقريب بين المذاهب الإسلامية، والاجتهاد في الإسلام وأهمية دوره في حياة المسلمين. واستمر المؤتمر ثلاثة أيام، قُدّمت فيه بحوثٌ قيمة ورصينة لكوكبة من العلماء، وكان فرصة فريدة للقاءات الودية بين علماء المذاهب ونخبها، لتعزيز التعارف والتفاهم وتبادل الأفكار والآراء، وإرساء أسس التواصل والتعاون.
ومثَّل هذا المؤتمر النوعي في موضوعه، والدقيق في توقيته، نقطة تحوُّل في تعزيز أبواب الحوار المذهبي في الألفية الجديدة، وأكد أن اللقاءات المباشرة بين العلماء تخفف من حدة الشحن الطائفي. كما أصبحت توصياته مرجعًا لمؤتمرات لاحقة.
وحرصت مملكة البحرين على تحقيق التوازن في تمثيل المؤتمر، والتنوع في المشاركين، بحيث كان صورة جامعة للعالم الإسلامي بمختلف مكوناته، ليعبر عما يعتمل في نفوس جميع المخلصين من ضرورة خلق الإرادة الجادة لدى الجميع لتحويل “حوار المذاهب” من شعار إلى واقع ملموس. لذلك كان المؤتمر نقلة نوعية في الحوار الإسلامي البنّاء، إذ أسهمت التوصيات الصادرة عنه في تشكيل خارطة طريق نحو الوحدة الإسلامية. وعكس هذا المؤتمر روح التآخي بين المذاهب المختلفة، من خلال تأكيده على تجاوز خلافات الماضي، والعمل على بناء مستقبل مشرق يتسم بالتعاون والمودة.
فقد أكد المشاركون في المؤتمر ضرورة تجاوز آثار الخلافات التاريخية التي حملتها الأجيال عبر القرون، والنظر بعقلية منفتحة نحو المستقبل. فالإسلام، رغم تعدد المذاهب، واحدٌ في أصوله وثوابته، وما تباين الآراء الفقهية إلا انعكاس للتنوع الفكري الذي يعزز من غنى الأمة بدلًا من أن يكون سببًا في تفرقها. فالتباين بين المذاهب ليس مجرد تعدد في الآراء الفقهية والعقائدية، بل هو مصدر لإثراء التراث الإسلامي، وذلك من خلال توسيع دائرة الحوار وتعميق البحث العلمي. فالاختلاف بين المدارس الفقهية الكبرى أدى إلى تنوع في الفتاوى والاجتهادات، مما وفر حلولًا متعددة للقضايا المعاصرة وأسهم في مرونة الشريعة.
لقد دعا المؤتمر إلى ضرورة أن يكون الخطاب الإسلامي وسطيًّا متزنًا، يتصدى للتحديات التي يتعرض لها الإسلام من الخارج، ويواكب التطورات الحضارية من الداخل. هذا التحديث للخطاب يعكس الحاجة إلى فهم أكثر عمقًا للواقع المعاصر، ما يضع الأمة الإسلامية في موقع الريادة من جديد.
ومن أبرز التوصيات التي حظيت بالإجماع في المؤتمر: تعزيز مفهوم الاحترام المتبادل بين علماء وأتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، واحترام رموز كل مذهب وشخصياته البارزة، بالإضافة إلى رفضه كل محاولات التعصب والفرقة بين المسلمين، والدعوة إلى العمل على تحصين الأجيال القادمة من آثار هذه الأفكار، وتعزيز الانتماء إلى أمة واحدة، كونه السبيل للقضاء على التعصب الموروث، والتفاخر المذموم الذي أضعف الأمة وأثقل كاهلها.
وقد أكد المؤتمر الدور المحوري الذي تضطلع به الأسرة والمؤسسات التربوية والإعلام في نشر ثقافة التقريب. فالأسرة، بصفتها اللبنة الأولى في بناء المجتمع، يجب أن تربي أبناءها على قيم الوحدة والتآلف. أما المؤسسات التربوية، فهي مسؤولة عن غرس ثقافة الحوار وقبول الآخر في نفوس الطلاب. أما الإعلام، فهو يحمل على عاتقه مسؤولية ضخمة، إذ يعد الوسيلة الأكثر تأثيرًا في تشكيل الرأي العام. وقد دعا المؤتمر القنوات الإعلامية إلى تبني منهجية صادقة تعكس القيم الإسلامية، والابتعاد عن خطاب التشويه والتبعية، وتعزيز ثقافة الوحدة من خلال برامجها وأنشطتها المختلفة.
ومن بين الأفكار الجوهرية التي ركز عليها المؤتمر: أهمية فقه الائتلاف وفقه الأولويات كقاعدة أساسية في الحوارات الإسلامية. ففقه الائتلاف يدعو إلى إعلاء قيم التآلف والتفاهم بدلًا من التناحر وإصدار الأحكام المسبقة. كما أكد المؤتمر ضرورة استمرار الحوار بين علماء المذاهب المختلفة بشكل دوري ومنظم، حيث تعد هذه الاجتماعات فرصة حقيقية للتعرف على الآخر وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي تشكلت عبر العصور.
إن مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي عُقد في البحرين يعد نموذجًا يحتذى به في سعي المسلمين نحو وحدة صفوفهم. فالتوصيات التي صدرت عنه تمثل دعوة صادقة للعودة إلى القيم الإسلامية الأصيلة، وإعلاء شأن الحوار والتفاهم بدلًا من التنازع والفرقة. فالتباعد بين علماء المذاهب المختلفة يزيد من الفجوة بين المسلمين، بينما تعد اللقاءات المستمرة الوسيلة المثلى لتقريب وجهات النظر والعمل المشترك من أجل مصلحة الأمة. فأمة الإسلام تمتلك من القيم والتاريخ ما يمكنها من استعادة مجدها الحضاري، شرط أن تتوحد تحت راية واحدة، متجاوزة خلافات الماضي، ومصممة على بناء مستقبل مشرق يقوم على التآخي والتعاون.
ع.إ , S.H.A