تغيير في الموقف الأوروبي والأميركي ..عبد الغني سلامة

شهد الموقف الأوروبي تحوّلاً مفاجئاً إزاء حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، لدرجة أن وسائل إعلام إسرائيلية وأجنبية وصفت هذا التحول بـ»تسونامي أوروبا».
ففي ظل التصعيد الخطير من قبل الاحتلال وما نجم عنه من كوارث إنسانية ودمار واسع النطاق ومع اشتداد الحصار وحرب التجويع، بدأ العديد من الدول الأوروبية بإعادة النظر في مواقفها الداعمة لإسرائيل، منتقدة بشكل واضح انتهاكات إسرائيل الفظيعة بحق الفلسطينيين، مع دعوات لفرض عقوبات، وتجميد اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وحتى اتخاذ خطوات دبلوماسية ملموسة مثل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ظهر هذا في بيان مشترك (بريطاني، فرنسي، كندي)، إضافة إلى تعليق بريطانيا مفاوضات التجارة الحرة مع اسرائيل، واستدعاء كل من إسبانيا وفرنسا وإيطاليا لسفراء إسرائيل وتقديم احتجاجات، حتى حكومة اليمين في السويد دعت إلى معاقبة إسرائيل.
وحول أسباب هذا التغير هنالك عدة تصورات، أولها أنه جاء متأثراً بضغط الرأي العام والمسيرات الشعبية الحاشدة، وصدور تقارير منظمات حقوق الإنسان.
ثانياً: ربما أتى الموقف الأوروبي رداً على سياسات الإدارة الأميركية الأخيرة ضد أوروبا فيما يتعلق بزيادة الرسوم الجمركية على البضائع والمنتجات الأوروبية، الأمر الذي سيلحق ضرراً كبيراً في الاقتصاد الأوروبي.. وأداة المواجهة هنا تمثلت في الضغط على إسرائيل ربيبة أميركا. وهذا يعني أنه موقف مؤقت تكتيكي لا يتعارض مع الموقف الإستراتيجي المشترك لكل من أوروبا وأميركا الذي يعتبر إسرائيل أكثر من مجرد حليف، بل هي مشروع الغرب الاستعماري الأهم.
وبالعكس، ثمة من يقول: إن الموقف الأوروبي جاء تماشياً مع موقف ترامب، حيث أنَّ أولويات الإدارة الأميركية مختلفة كلياً عن أولويات الحكومة الإسرائيلية، ونقاط الخلاف كثيرة، أبرزها استمرار الحرب على غزة، والحرب على إيران، الموقف من الحوثيين، ومن سورية، ومن تركيا، بمعنى أنه موقف مشترك أوروبي أميركي معارض لحكومة نتنياهو وتوجهات اليمين الإسرائيلي، لكنه لم ولن يصل إلى معارضة إسرائيل نفسها، أو نزع الشرعية عنها، أو تعريضها للخطر.. فضلاً عن الاختلاف بين الموقف الأوروبي الداعم للسلطة، والمؤيد للدولة الفلسطينية، والرافض للاستيطان، على عكس الموقف الأميركي، الداعم لإسرائيل بلا تحفظ.
ورأي آخر مفاده أن القادة الأوروبيين اطلعوا على مخطط «عربات جدعون»، وعلى تداعيات حرب التجويع، والكارثة الإنسانية التي ستنفجر أكثر إذا لم تتوقف الحرب، وبالتالي أرادوا التبرؤ من نتائج الكارثة، لأن ما يحصل فوق قدرتهم على التحمل، ومواجهة نتائجه، ولأنه كشف زيف شعاراتهم عن حقوق الإنسان والقانون الدولي.
أو هي محاولة أخيرة (وربما يائسة) لاستعادة الدور الأوروبي المفقود والضعيف في منطقة الشرق الأوسط.
بصرف النظر عن أسباب ودوافع التغير في الموقف الأوروبي، وعن مدى صدقيته، المهم بالنسبة لنا استثمار هذا الموقف والبناء عليه، فهو موقف إيجابي ومهم، ولكن علينا ألا نبالغ في تفاؤلنا، لأسباب عديدة، أولها أن تغير موقف الحكومات الأوروبية لم يرقَ إلى المستوى المطلوب، ولم يدعُ إلى فرض عقوبات صارمة (كما فعلت ضد روسيا)، فضلاً على أنه جاء متأخراً. ومن ناحية ثانية دعت كل من فرنسا وإسبانيا إلى وقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، فهذا يعني بداهة أن تصديرهم للسلاح لم يتوقف خلال أشهر الحرب السابقة، مع كل ما كانوا يقولونه على الإعلام عن «مأساة غزة»، و»ضرورة تجنب قتل المدنيين». أما حكومة العمال البريطانية فهي لم تتوقف حتى الآن عن تزويد إسرائيل بالسلاح.
الاستثمار المطلوب (وهو شرط أيضاً لنجاحه): توحيد الموقف الفلسطيني، أي إنهاء الانقسام، وطرح برنامج سياسي جديد يتفهّم ظروف المرحلة واستحقاقاتها، وتسريع عمليات الإصلاح في السلطة الوطنية ومنظمة التحرير (وفق المصلحة الفلسطينية المستجيبة للشروط الدولية)، وطالما أن ذلك يتطلب وقتاً (ولكن يجب البدء فوراً)، هنالك ما يمكن فعله على الفور، والكرة هنا في ملعب «حماس»، التي بوسعها سحب كل ذرائع إسرائيل لاستمرار الحرب، وتقوية الموقف الفلسطيني، الذي بدوره سيقوي فرص بلورة مبادرة أوروبية لطرح تسوية سياسية معقولة، فمهما ضعف الدور الأوروبي أو تراجع تأثيره يبقى مهماً، ومن الوارد أن تنضم إليها الولايات المتحدة.
وما أخشاه أن تفهم «حماس» تغير الموقف الأوروبي وكأنه داعم لها، وموافق على استمرار حكمها (اليوم التالي)، وبالتالي ستتصلب أكثر بشروطها، ما يعني إطالة أمد الحرب، والمزيد من القتل والخراب والتدمير وفرص التهجير.. وفي الحقيقة موقف الدول الأوربية وأحزابها ومثقفيها بمن فيهم المؤيدون للقضية الفلسطينية والمتعاطفون مع الشعب الفلسطيني والرافضون لسياسات الاحتلال.. موقف ثابت ومعلن تجاه «حماس»، فهم جميعاً يدعونها للتخلي عن الحكم، وجميعهم أدانوا هجمات السابع من أكتوبر، وجميعهم يطالبونها بتسليم الرهائن.. أما الحكومات فهي لا تكفّ عن وصف نفسها بأنها صديقة وداعمة لإسرائيل.
سبق لـ»حماس» (ومؤيديها) أن فهمت التظاهرات الاحتجاجية التي عمّت مدن العالم على أنها دعم للمقاومة! وتأييد للحق الفلسطيني. وأكثر من ذلك ظهرت مقولات عديدة تزعم أن شعوب العالم وقواه الحية وأحزابه ومنظماته فهمت القضية الفلسطينية أخيراً، واستوعبتها، وآمنت بعدالتها، وبمشروعية الكفاح الفلسطيني. وهذه مقولات متسرعة ومفرطة في التفاؤل.
هل قامت جهة ما بتوزيع كتيبات ومنشورات وأفلام وثائقية تشرح القضية الفلسطينية للجماهير المحتشدة في الشوارع والساحات؟ بالتأكيد لا.. فهذا غير ممكن، ولو طبق منه قدر ضئيل، سيحتاج إلى وقت طويل حتى يُحدث تغييراً حقيقياً في المفاهيم والمواقف.. في واقع الأمر الأغلبية الساحقة من جموع المتظاهرين والمحتجين حول العالم (باستثناء تظاهرات جماعة الإخوان في الأردن) خرجوا احتجاجاً على صور قتل الأطفال والنساء والمدنيين، وعلى صور القصف والدمار، وصور الجوعى والخائفين وخيام النزوح والظروف غير الإنسانية التي يعيشها أهل غزة، وهي صور تستفز كل إنسان حر ولديه ضمير، فهي تظاهرات ضد الإجرام الإسرائيلي، ودعوات لوقف الحرب، ووقف الظلم، وتعاطف مع المدنيين الأبرياء.