التطبيع بين المعادلات والمفارقات أخبار السعودية
أغرقنا المتاجرون بقضايانا الشعاراتية بتفاصيل، وحالوا بيننا وبين الأسس، والمنطلقات التي يمكن التمسك بها للدفاع عما نعتقده، وما نقدّسه من مبادئ وقيم وأعراف، ولا ريب أن البشر هم البشر، مهما طالت بهم أزمنة الحروب، والصراعات، يظلون حالمين بالسلام والاستقرار، فالشعوب لم تعد مؤهلةً لمزيد أزمات، بحكم ثقافة ومعطيات عصر جديد (كُفره أكثر من إيمانه)، وجني المكاسب هاجسه الأكبر، دون شفقة ولا رحمة بصغار المُضاربين.
لم تغيّر المملكة سياستها تجاه قضايا العرب المركزية، ولم ترفع يدها أو تسحبها من التزامات القضية الفلسطينية، إلا أن تخلّي حاملي اللواء عن لوائهم، وتسابق الأطراف المعنية بالصراع مع إسرائيل لخطب ودّ الشركاء الأمميين أوقعهم في خانة الضعف، والضعف يُغري الآخرين بالتطاول عليك، ونقص قدراتك يدفعك للتنازلات، خصوصاً إذا كانت خيوط اللعبة وأوراقها بأيدي خصمك.
غدت دولة إسرائيل واقعاً على الأرض وتاريخاً في المدونات، (وإن كان عمره قصيراً)، وجغرافياً لا مفرّ من التعامل معها، دون استنكاف، ولا مزايدة، فالأسلاف الذين كانوا يحيلون الأزمة مع إسرائيل إلى أزمة وجود لم يُفلحوا في اجتثاثها، ولا رميها في البحر، بل لعلها اليوم أنجح على مستوى مؤسسي أكثر ممن هددوها، ولعل الضغوط التي كان يمارسها بعض العرب على دول نفط العرب، انطلاقاً من قناعة مفادها أن باب السلام واحد، وأن مفتاحه بأيديهم، فقدت معناها ونفوذها بعدما أثبتت الأيام أن للسلام مع إسرائيل أكثر من باب، ولكل باب مفتاحه.
ربما يكون العدو الواضح الصريح أقلُّ سوءاً وشراً وشراسةً من صديق متلوّن مخاتل، والاعتراف باحتمالية خطأ التقدير البشري فضيلة، فأحياناً يُضافُ إلى العدو المحتمل ما ابتُلي به صديق مُفتعل من السوء، لتشويه واقعه، والإغراء باستمرار العداء، وعدم التفكير في السلام والمصالحة، والعلاقات السويّة تتوقف على النوايا الحسنة إلا أنها ليست كل شيء، بل تفتقر لما يعزز الثقة من تصرفات وقرارات، ومراعاة الظروف والمتغيرات، وعدم إحراج النوايا الطيبة بالمراوغات، كون بعض العرب تنطبق عليهم مقولة (المحدود في إمكاناته لا حدود لتطلعاته).
ليست العلاقات المُميّزة، ولا المصالحات المُبهجة، بالتمنيات فقط، بل لها شروط ودواعٍ موضوعية، ولها مبررات فيما لو فشلت، والسياسات الناجحة لا تقوم على قوة مادية مُفرغة من أهدافها الأخلاقية، ولا يكفي أن تستشعر دولة ما أنها قوية، بل هناك حاجة لشجاعة كافية لاتخاذ ما تراه منسجماً مع واقع العالم المتغيّر، ولا ريب أن الشجاعة وجهٌ من وجوه الحكمة.
بقدر ما نجحت إسرائيل في الضمّ، بقدر ما يوغل الشركاء الفعليون في التفرقة، وبقدر ما تُبنى مستوطنات، بقدر ما يتفرق الرفاق في الشتات، ولربما تلفتنا هذه المعادلات المقلوبة والمفارقات إلى أن العربي (قاسي رأس)، وقساوة الرأس تكبد أحياناً كثيراً من الخسائر، ولعل الراحل ياسر عرفات تنبه في أُخريات عمره لخطورة مسلسل تفويت الفرص، فاستلحق ما أمكن استلحاقه، ولعله لم يندم، فالاحتلال لا يُرفع دوماً بالمعارك، بل لكل زمن قوّته، ووسائله البديلة.
حقاً، التاريخ لا يكرر نفسه، إلا أنّ الأيام يمكن أن تتشابه، والفرد والدولة ربما يشعران بشيء من الغبن: عندما يُورط صديقاً أو قريباً أو جاراً في معركة، ويخرج هو منها، بتسويات أو مصالحات، أو عمليات سلام، وربما تلوم نفسك إثر مرور عقود من اتخاذك مواقف حادة أكثر مما يجب تجاه شخص أو دولة تنفرد بقرارها في أوّل منعطف وتتركك على ما أنت عليه.
الفكرة القائلة بأن الأرض العربية واحدة فتحت على العرب أبواب شرور، ولذا كان من رحمة الله أن اعتمدت الأمم المتحدة حدوداً جغرافية سيادية لكل دولة، وليس من المنطقي القبول بفكرة الدخول في حرب مع طرف ليست بينك وبينه مشكلة أصلاً، وإنما تبنيت إشكالية الآخرين بصدق وطيب خاطر، ولم تتوقع أن يخرج أو يُخرج من المعادلة، وتظل وحدك في مواجهة ربما لا حيثيات منطقية لها.
منذ نهاية السبعينات، وانفتاح مصر على إسرائيل بمبادرة سلام شُجاعة، والمزايدون يحرقون أوراقهم، بذم المُبادر والسير على خُطاه، وعقب كارثة احتلال الكويت تحركت عربة السلام ولم تتوقف، من مدريد، وأوسلو، ووادي عربة، وجنيف، كلها شاركت فيها بلدان الطوق، وتصالحت وصافحت (عدو الأمس) بكفٍّ معطرةٍ بماء الورد والكادي، وعزيمة صادقة على تبني خيار السلام.
للسلام يده العليا في النصوص المقدسة، وله ضوابطه الفقهية، والقانونية، ونحن لم نكن في حرب عسكرية مباشرة مع إسرائيل، ولن يُلحق منصف (اللوم) بسياسة المملكة، إذا كانت الناحية الشرعية لا تعوق المصالحة، فنظرة ورسالة الإسلام عالمية ومقتضى عالميتها أن يكون من يمثلها نموذجاً في التعامل وحُسن الجوار.
تُضاف للسلام مكتسبات اقتصادية، وثقافية، وإنسانية، يمكن أن يوفرها (السلام) الذي صورته في ذهنيتنا الشعبية (ألا يخرج طرف مغبوناً غبناً تاماً)، فالمصالحة تقوم على تسوية، وأحصن التسويات ما يُبنى على قواسم مشتركة بين المُتنازعين، فمتى كانت بين الدول مصالح مشتركة فلن يفكر أيٌّ منها في قرار الحرب، وسيُعلي خيار السلام.