تركي الدخيل في رسالة إلى «القاسمي»: أتعبت المصنفين بعدك أخبار السعودية
وأدب المراسلات فن قديم في الذاكرة والوجدان العربيين، وبلغ من ذيوع الفن، أن خصَّه الثعالبي بفصول في (سحر البلاغة) جمع فيها ما تخيَّره من رسائل الكتَّاب، وأبرز من اشتهر بهذا الفنّ أبوحيّان التوحيدي؛ خصوصاً في كتابه (الصداقة والصديق) وها هو (أبو عبدالله) يعيش العصر الرقمي، ويعتمد لغة الورّاقين، ليخطّ من لندن رسالةً (معتّقة المفردات) في عطر أسلوبية الجاحظ وابن عبدربه إلى صديقه الخبير المعجمي الدكتور علي القاسمي، بعد أن قرأ كتابه (معجم الاستشهادات الموسّع)، ويبعثها بخطه اليدوي الأنيق عبر وسيط إلكتروني لو يحسّ بما تتضمنه هذه المشاعر لثمل ولحرن كما تحرن الفرس، وهنا نص رسالة الدخيل التي تكشف ما امتاز به صاحب (جوهرة في يد فحام):
شيخنا الجليل وأستاذنا العالم المبجل النبيل
إمام صناعة المعاجم.. جامع علوم العرب والأعاجم..
الدكتور علي القاسمي سلمه الله
تحية محبة وإعزاز وإجلال وتقدير.. وبعد:
فما زلتُ ممتلئًا بفيض معرفتكم، مبتهجًا بما امتد إليَّ من بحر علومكم، منذ تملكت نسخة من (معجم الاستشهادات)، جذلًا بصنوف عناية لم أعهد مؤلفًا يحرص على إيصالها للقارئ، بدلالٍ قد يصل حدَّ التغنيج.. ما زلتُ كذلكَ، حتَّى مَنَّ الله عَلَيَّ بتيسير اقتناء (معجم الاستشهادات الموسَّع)، ويعلمُ الله أني لم أشتكِ من ضيق في الرفيق الأوَّل، ولكن هل يَرَدُّ عاقلٌ منحة يقدمها له شَيخه، وكأنه يتمثل قول الشاعر:
تراه إذا ما جئته متهللًا
كأنكَ تُعطيه الذي أَنت سائِلُه!
فيا دكتورنا العَلِيَّ منزلةً، وعلمًا، ومكانةً، وبذلًا، وعطاءً…
لم يساورني شَكٌ كُلَّمَا قَلَّبتُ صفحات معاجمك، التي أزالت عُجمتي، أَنَّكَ صنعتها على عينك بمحبة غامرة، لمادتها، وآلتها، ومصدرها، ومن تصدر إليه..
لا يمكن أن تنبت فروع خدمات معاجمك في أرضٍ لم تُحرَث بِحُبٍّ، ولا بُذِرَت بِحُبٍّ، ولا سُقِيت بِحُبٍّ، ولا قُطِفت ثمارها بهذه المحبة، التي تكسو الأشياء، جمالًا، وجلالًا، ودلالًا!
إرشادات استعمال المُعجم في صفحتين، ثم موضوعات الفهرس في ستٍ وعشرين صفحة، في كل صفحة، عمودان من الكلمات الدَّالَة، الموضوعية، بحيث تشمل الصفحة نحوًا من ستين كلمة، وربما تزيد!
أُتراك يا دكتور، وقد حملتَ لقبَ عائلتكَ الكريمة، الدَّال على إتقان القسمة، تقسم بالعدل بهذا الصنيع؟!
أما وقد احتفلتُ قبل أسابيع، في الثاني من يوليو (تموز)، بواحد وخمسين عامًا، فإني أذكر أني قضيتُ منها أربعين عامًا، أحفظ مقولة عمر بن الخطاب، دون أن أفهم لُبَّهَا، حتى غشتني فيوضك أيها العَلِيُّ… تلك هي: «أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر»..
وفهمتها إذ تيقنتُ من قول حق، هو: «أتعبت المصنفين بعدك يا دكتور علي»… فمن سيوفر بمحبة لقارئه، في فهرس الموضوعات، أكثر من 1,500 موضوع، من خلالها يقف: (معجم استشهادات القاسمي الموسع)، منتصبًا بشموخ في خدمتك؟!
أليس الدكتور علي القاسمي، ممن أفنى عمره في خدمة العربية؟!
إنه عربي قُحُّ، وعربيته زرعت فيه، ضمن حفاوتها بإكرام الضيف، نفسًا تتقن التواضع من نفاستها، فعلمت أن الخدمة عند العرب فخر وعز، وغاية العلم العمل، فما استكبرت من خدمة العلم وأهله. وفي الأثر: «خادم القوم… سيدهم».
ما هذه الثقافة العجيبة يا دكتور، تلك التي تستمتع بإيصال المعاني عبر الأضداد؟! كيف يكون الخادِمُ سَيِّدًا؟!
لن يفهم هذا المعنى الدقيق يا سيدي، إلا من يتذكر، ويعي عندما يتصفح عملك، أبيات أبي تمام، وكأنه يصف نتاجك، إذ يقول:
هو البحر من أيِّ النواحي أتيته
فَلُجَّتُهُ المعروف والجودُ ساحله
تَعوَّدَ بسط الكف حتى لو أنه
ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كَفِّه غير رُوْحِهِ
لجَادَ بِهَا… فَليَتَّقِ الله سائله!
استشهاداتٌ في 742 صفحة، عددها يتجاوز 18,000 استشهاد، ودراسة عميقة بديعة في الاستشهاد، بكل أصوله وفروعه، ومعاجم الاستشهادات، في نحو أربعين صفحة!
متبوعة بفهارس محتويات الدراسة، في ثلاث صفحات!
ثم فهرس تفصيلي (ألفبائي)، لأصحاب الاستشهادات، وقائليها من الأعلام، في ثلاث وأربعين صفحة، ثم فهرسٌ تفصيلي دقيق للألفاظ والمعاني، عمد فيه المؤلف إلى إدراج الأسماء بالفهرس في صيغ مختلفة، مفردة، ومجموعة، ولا تستغرب أن يكون مثاله الشارح: الحبّ، المحبّ، الحبيب، الأحباب، المحبّون، إلخ…
ومراد القاسمي، أن يقسم لكل من فتح المعجم، نصيبًا من عطاء، فلا يعود خائبًا من قصد عَلِيًَّا…
قبل أن أنسى، أقول للدكتور الحاج علي بن الحاج محمد بن الحاج عيسى بن الحاج حسين القاسمي، تعليقًا على اختياره الحبَّ، مثالًا لشرح توسعه في استخدام جميع صيغ الأسماء، ألفاظًا ومعانِيَ:
الصَبّ تَفضَحُهُ عُيونُه
وتَنِّمُ عن وَجدٍ شُؤونُه
إنا تَكتَّمنَا الهوى
والداءُ أقتلُهُ دَفِیْنُه
أينفعُ يا مولانا، الذهاب إلى مفهوم البحث عن المعاني بالأضداد؟
فأورِدُ على أبيات أحمد رامي، التي تعتبر أن أقتل الداء دفينه، بيتَ أبي الطيب المتنبي:
لَعَلَّ عُتَبكَ محمودٌ عَوَاقِبُهُ
فربما صَحَّت الأَجسام بالعِلَلِ
ولا أرى تناقض الأضداد، بقدر إسهام أحدها في بيان الآخر:
والضِّدُ يُظهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ
وبِضِّدها تتباينُ الأشياءُ
ونحوه في اليتيمة:
ضِدّانِ لمّا اسْتُجْمَعا حَسُنــا
والضدّ يُظْهِرُ حُسْنَـهُ الضِـــدُ
ماذا بقي؟!
بقية التعريج على ما يقدمه علي القاسمي للقارئ من الدلال والتغنيج!
إنها فهارس الألفاظ والمعاني، التي جاءت في 206 صفحات فقط!
• عجيبة: وبينما أُقَلِّبُ (معجم الاستشهادات الموسع)، وقعت عيني، صدفة، والله يشهد، على فهرس الألفاظ والمعاني، وتحديدًا، على عبارة: (إبر النحل)، فإذا تقريبُ الدكتور علي القاسمي لها، يُخبرني أن الاستشهادَ المتعلق بها، في ص 447، ورقم الاستشهاد (7)، موجودٌ بين استشهادات الصفحة، فأذهبُ إليها فورًا، فأجدُ بيتَ المتنبي:
تُريدينَ لُقيانَ المَعالي رَخيصَةً
وَلا بُدَّ دونَ الشَّهدِ مِن إِبَرِ النَّحْلِ
واعتذر من أبي الطيب، عَنِّي وعن أحد كبار مُحبيه، المُصَنِّف، فقد نقض القاسمي بمُعجمه بيت المتنبي، فهل نَقَضَه من حيث يدري، أم من حيث لا يدري؟!
المتنبي يقول لنفسه، لن تدركي المنازل العالية بسهولة، فمن أراد العسل لا بد أن تلسعه إبر النحل.
لكن الدكتور القاسمي في معجمه يقدم المعلومة بسهولة، ودون تعب، وهكذا يبدو ناقضًا فكرة المتنبي!
أيها العَلِيُّ العَلِي.. شكرًا بحجم سموك.. بحجم بذلٍ أكرم من حاتم، والسلام عليك دومًا..
تلميذكم المحب
تركي بن عبدالله الدخيل
مؤلّف «معجم الاستشهادات الموسع»
الدكتور علي القاسمي، مؤلفُ (معجم الاستشهادات الموسع)، جامعيٌّ ومجمعيٌّ عراقيٌّ يُقيم في المغرب منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
* وهو لغويٌّ متميِّز وكاتب مبدع له ثلاثون كتاباً ونيِّف في القصّة، والنقد والترجمة والمعجميّة والمصطلحيّة، وحقوق الإنسان والتنمية.
* أمضى أكثر من عشرين عاماً في جمع مادّة (معجم الاستشهادات الموسع) وتبويبها. وتمعَّن في أهمّ معاجم الاستشهادات في اللغات الإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة والإسبانيّة، ليستفيد من أفضل تقنيّاتها في تصنيف معجمه.
* شارك في عشرات المؤتمرات المعجميّة الدوليّة للاطلاع على آخر التطوّرات في صناعة المعجم؛ كان أهمّها المؤتمر العالميّ الذي عقدته الجمعية المعجميّة الأوروبيّة في جامعة تمبرة في فنلندا عام 1992، وألقى فيه بحثًا عن عمله في إعداد (معجم الاستشهادات الموسع)، في حلقةٍ دراسية ضمّت عشرين معجميًّا من مؤِّلفي معاجم الاستشهادات في الأقطار الأوروبية المختلفة، وأفاد من خبرتهم وآرائهم.