حبسة كُتّاب توهم ببلوغ الكتابة «سنّ اليأس» أخبار السعودية
إذ عدّت الكاتبة الأكاديمية زكيّة العتيبي (حبسة الكاتب) تسمية دقيقة؛ كون حالة التوقف تلك تشبه حالة الحبس، وما يتبعها من طول المكوث، أو العمل على المطالبة بتخفيف الحكم.
وأوضحت العتيبي أنها توقفت عن الكتابة عشر سنوات، وظنّت معها أنها لم تعد صالحة للكتابة، كونها سمحت لظروف الحياة أن تجرفها دون مقاومة، فتحوّلتْ تلك الحالة إلى موجة سارت بها في كل اتجاه، إلا صوب البوح. وقالت: «كنت حينها ممتلئة بالكلام إلا أنني فقدت إلى حد الإيمان بجدوى الكتابة. وأضافت: الحالة أقرب إلى غضب حزين إن صح توصيفي لتلك الحالة».
وأكدت العتيبي أنها بمجرد أن عادت للقراءة والاطلاع وتجريب قلمها لاستعادة لياقته عاد كل شيء. وترى أن الذين توقفوا عن الكتابة، توقفوا بمحض إراداتهم وإن لم يشعروا لأن قلق الكتابة يجعلهم في حالة غير مستقرة.وتؤكد أن حالة الإبداع لا تصل إلى سن اليأس إلا بالتعمد من الكاتب نفسه.
فيما ذهب الكاتب نصر المجالي إلى أن الكتابة في أيامنا الراهنة في حال لا تحسد عليها، في ظل الفوضى الثقافية والمعرفية واختلاط الأشياء في الواقع العربي وتضادها وتصارعها حسب مقتضيات وتطورات وتداعيات من الداخل والخارج. وأضاف: «ربما أنها تدعو بارئها مستصرخةً؛ للحفاظ على وشم طفولتها، وهودج عذريتها الذي كان قبل أن تدق عليها الأزمنة بوابات اليأس، وانقطاع الطمث أو أن تصبح عاقراً تحت ضربات الأحداث».
ويرى أن خنق الكلمة جاء من تسلُّط نخب شعبوية بائسة على الجماهير واستحلال ثقافتها كرهاً وغصباً لصالح موقف شخصي لا علاقة له بالشعب وثقافته ومستقبله وآلامه وأحلامه، ويؤيد المجالي بلوغ الكتابة سن اليأس.
فيما يؤكد الناقد عبدالواحد اليحيائي أن الكتابة (التقريرية أو الإبداعية) ليست هي من يبلغ سن اليأس، بل الكاتب..
ويرى أن اليأس هنا هو انقطاع الكتابة الجديدة أو الموحية أو المرشدة بل حتى الكتابة الممتعة، مشيراً إلى أن لذلك أسبابه بين الكاتب وقرائه: «كأن يصاب الكاتب بعارض جسدي، أو نفسي يحول بينه وبين كتابته، أو حين يؤمن بعدم جدوى كتابته، أو حين لا يرى جديداً يستحق الكتابة، أو حين يعتقد أن ما أراد كتابته أو قوله ربما كُتب؛ وقيل من قبل، فلا حاجة لتكراره مرة بعد مرة، أو حين يخاف الرقيب من ذاته الكاتبة، أو من خارج هذه الذات، أو حين يجتهد ثم لا يجد، أو لا يعرف وسيلة تنشر ما كتبه على الناس، أو حين يرى أنه أدى رسالته نحو المجتمع والناس فلا مزيد لديه، وأحياناً لا رغبة، وأيضاً حين يفقد الثقة في قرائه ومتابعيه، إما غروراً فيحسب كلماته تجاوزتهم فما عادوا أهلا لها، أو تواضعاً فيحسب أنهم ربما سبقوه فهماً ووعياً والعارف لا يعرف كما قيل». وأضاف اليحيائي: ييأس من الكتابة وجدواها حين لا يُطلب رأيه، وربما ييأس حين يطلب منه الرأي في شأن ما ثم لا يعمل به.
وتساءل: هل اليأس مرتهن بعمر أو جنس أو مكان أو زمان؟ ويجيب: ربما.. إلا أن جماع اليأس الكتابي هو أن لا يكون لدى الكاتب ما يكتبه لأن موارده من مادة الكتابة ضئيلة هزيلة، وهو ضئيل حين لا يجرب، وحين لا يقرأ، وحين لا يحاول أن يعلم ويفهم، وحين لا يلامس ما حوله من هموم ومن حوله من ذوات، لافتاً إلى أن اليأس من الكتابة حينها أجدى من كتابة توهم كاتبها بالخصب وما ثم إلا الثرثرة الفارغة والوقت الضائع بين الكتابة وقارئها. وتساءل: «كيف يخرج الكاتب من يأسه؟ ويجيب: لعل الدواء يحوي بعض مضادات الاكتئاب بسبب بعض ما يراه ويسمعه ثم لا يستطيع أن يكتبه، ولعله يحتاج جرعات من الحرية المسؤولة تقنعه أن الأمل أعظم من اليأس، وأن العمل مقدم على الكسل، وأن في الحياة الكثير مما يمكن الكتابة عنه بحب وأمل وحلم وإبداع».
ويؤكد المفكر شاهر أحمد نصر أن الكتابة، كما القراءة، فعل هداية لا يشيخ! وأن (اقرأ) هي أجمل جملة في كلمة، يحق للعرب أن يباهوا بها أمام العالم، إذ تلخص تجربة البشرية، وتسهم إسهاماً حضارياً راقياً في هدي البشرية، وبناء حاضرها، وغدها، ومستقبلها… مِن ثّم أتت الكتابة ضرورة ملازمة وحارسة لـ(اقرأ)؛ فالكتابة تحفظ اللغة، وتحفظ إنتاج البشرية الفكري، وميراثها الثقافي والعلمي؛ فضلاً عن إسهامها في تنظيم الأفكار، وتفاعل ملكات الإنسان وتطور موهبته، إنّها وسيلة مهمة لتوريث المعرفة من جيل إلى جيل.
وعدّ الكتابة الإبداعية كالتنقيب عن الذهب؛ يصفي طالبه أطناناً من الطمي لكي يعثر على غرام من الذهب، أو درة نفيسة، والكاتب المبدع يعارك الحياة، ويقرأ، ويقرأ، ويطلع على الثقافة البشرية، وعلى مختلف صنوف المعرفة، لينتقل إلى ساحة الكتابة التي لا تمنح نفسها إلا لمن عارك في سبيلها وأصبح يستحقها، إنّها هبة متميزة تُمنح لمن صقلت الحياة مشاعره، وسمت أحاسيسه، وصفا ذهنه؛ بالقراءة والتدريب ومعاركة الحياة، ولمن ظلّت محبّة العمل، والبحث عن الجمال والحرية والمحبّة نبراس حياته، ومن لازم تفكيره النقد، والشكّ، والموضوعية والتجرُّد عن الهوى منهجاً ناظماً لبحوثه، كي يبدع نصوصاً نسيجها بيان بديع فصيح متناسق عابق بقيم الخير والجمال والكرامة والحرية، وحبّ العمل وتخليد محبّة الأهل والإنسان والوطن.
ويرى أن «أسمى لحظات الكتابة حينما يتفاعل عقل الكاتب المنفعل مع العقل الكلي الفاعل، فتصبح الكتابة إبداعاً في التواصل مع المتعالي»، مضيفاً بأن هناك عوامل كثيرة تزيد باستمرار من ضرورة الكتابة وأهميتها؛ منها، على سبيل المثال: تخليد حبّهم لشعوبهم في ملاحم خالدة، ويرسّخ العاشق المبدع الصادق ملاحم الحبّ في نصوص خالدة.. كما يخلد الباحث عن الحقيقة والخلود بحثه كتابة: فلمّا عاد جلجامش من رحلته نحت قصته على الصخر (أي كتبها) لتخلد ملحمته.. فالعمل والكتابة أخلد من الإنسان، مؤكداً أن التجارب الإنسانية لا تنضب، والإنسان بطبيعته يصبو إلى تخليد تجاربه وذكراه، والكتابة أهم معين له في هذا السبيل، فالكتابة لا تشيخ ولا تنضب.
كل كاتب لديه ما يقوله في كل مرحلة من عمره
فيما ذهب الكاتب المسرحي فهد ردة الحارثي، إلى أن الكتابة كائن حي لذلك هي تمرّ بكل الحالات وتتأثر بها، فهي تمرض وتموت وتبلغ سن اليأس وتهيج فتكون مصغرة، وتخضر بربيع أنيق وتزهر وتثمر وتتلاشى وتتغابى وتلف حبلاً حول كاتبها، وربما تشنقه، وربما ترفعه وربما تسقطه، وربما تمد له بسبب ليصعد لسماء عليا. وأضاف: إلا أن كل ذلك يتأثر بفعل المحيطات بالكاتب، فكل المتغيرات التي تحدث للكاتب وتتأثر بها الكتابة هي من صُنع ظروف محيطة تؤثر وتتأثر وتتغير وتغير وتتبدل وتبدل، مؤكداً أن الكتابة؛ باعتبارها فعلاً حياً، لا بد أن تتبع كاتبها وكأنها الصفة تتبع الموصوف وتتأثر بحالاته رفعاً وضماً وجراً وموتاً وحياة، وبالتالي إذا بلغ الكاتب سن اليأس بلغت الكتابة معه سن اليأس.
وتروي الكاتبة جاكلين سلام حضورها عام 2006 مهرجاناً شاركت فيه الكاتبة الكندية (أليس مونرو) التي كانت في سن متقدمة وتحدثت عن معاناتها في الكتابة والاحتفاظ بتاريخ إنهاء مشروع الكتابة كما تم بالتعاقد مع دار النشر. ما أخرها عن مواكبة المشاريع الكتابية والحياتية اليومية وقررت حينها أن تتوقف عن الكتابة، إلا أنها لم تصدق، بل أصدرت قصصاً بعد ذلك وحصلت على نوبل عام 2013. فلم تيأس من الكتابة. ومثلها (مارغريت أتوود)، فهي في منتصف الثمانينيات وبدأت مؤخراً بكتابة سيرتها الذاتية.
وأضافت: باعتقادي أن الكاتب في أي حقل إبداعي لن يكتب في السبعين ما هو أهم وأجمل مما كتبه في الإصدار الثاني له إذا اعتبرنا أن الكتاب الأول ربما يكون فاشلاً أو تجربة غير ناضجة، مشيرةً إلى أن كل كاتب لديه ما يقوله في كل مرحلة من عمره. وعدّت الحالة العربية مؤهلة لليأس في كل المراحل، وترى أن ما يكتبه الكتّاب العرب لا شك محاولة جيدة في هدم جدار اليأس، رغم عدم الاستقرار الاجتماعي والإنساني، إذ يعاني الكاتب من محدودية مساحة التعبير ما يؤثر على التخييل وابتكار الجديد الذي يخترق المنظومة القديمة والخوض في حداثة تتجاوز الواقع.