حينما تتكلم السيادة بلغة الاقتصاد.. قراءة في سياسة ترمب الحمائية أخبار السعودية

في مشهد عالمي تتقاطع فيه السياسة بالقانون، وتتصادم فيه ضرورات الداخل مع التزامات الخارج، عادت السيادة الاقتصادية لتحتل موقع الصدارة، لا بوصفها مجرد مبدأ قانوني كلاسيكي، بل باعتبارها خياراً سياسياً واستراتيجياً تسعى من خلاله الدول إلى فرض رؤيتها في إدارة مصالحها. وقد جسّد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب هذا التوجه بوضوح، عبر فرض تعريفات جمركية على واردات عدة دول، في خطوة رأى فيها كثيرون تحدياً صريحاً لمنظمة التجارة العالمية، بينما اعتبرها آخرون ممارسة طبيعية لحق الدولة في حماية مصالحها الاقتصادية.
من منظور القانون التجاري الدولي، تُعد هذه الإجراءات موضع نقاش، لكنها لا تخرج تماماً عن الإطار القانوني إذا تمت ضمن أدوات مشروعة ومُعلنة. بل إن العديد من الاتفاقيات التجارية الدولية، بما فيها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، تترك للدول هامشاً من المرونة في حالات الخلل الواضح في موازين التجارة أو عند وجود ممارسات تُصنَّف بأنها غير عادلة. وهذا ما استند إليه الخطاب الأمريكي في تبرير هذه الإجراءات.
غير أن جوهر المسألة لا يكمن فقط في قانونية التدابير، بل في تطور النظرة إلى مفهوم «الاقتصاد السيادي» كعنصر من عناصر حماية الأمن القومي، وهو ما يتكرر اليوم في أكثر من دولة، شرقية كانت أو غربية. والمفارقة أن العالم الذي نظّر طويلاً للعولمة والانفتاح المطلق، هو نفسه من يعيد اليوم تعريف الانكفاء المؤقت بوصفه سياسة عقلانية لا بد منها في ظل الأزمات العالمية المتكررة.
وفي هذا السياق، تظهر السعودية كلاعب عقلاني في معادلة متقلبة، تجمع بين التمسك بالقواعد الدولية من جهة، والقدرة على الدفاع عن مصالحها وفق منطق السيادة المدروسة من جهة أخرى. فالسعودية لم تتخذ موقف الرفض من الإجراءات الأمريكية، بل قرأت المتغيرات بانتباه هادئ، وفضّلت أن تتفاعل معها بتكتيك تفاوضي قائم على المصالح لا على الاصطفافات.
تتمثل قوة السعودية في هذا المشهد في قدرتها على الجمع بين ثلاثة عناصر: الانسجام مع النظام التجاري الدولي، وحماية السوق الوطنية، والانفتاح على شراكات جديدة ومختلفة. لم تكن السعودية يوماً دولة حمائية، لكنها في الوقت ذاته لم تُسلّم قرارها الاقتصادي بالكامل لأي طرف خارجي. هذا التوازن هو ما يجعل التجربة السعودية في التعامل مع المستجدات التجارية نموذجاً يحتذى، خاصة أنها مدعومة برؤية اقتصادية واضحة، واستراتيجية قانونية حديثة تعزز من مركزها التفاوضي في مختلف المحافل الدولية.
من الناحية القانونية، فإن السعودية تملك اليوم أدوات قوية تمكنها من التفاعل بمرونة وفاعلية مع أي تحولات تجارية دولية. فالنظام التجاري المحلي تطور بشكل ملحوظ، وأصبح يتكامل مع منظومة تشريعية جديدة تُراعي الاتفاقيات الدولية دون أن تهدر الخصوصية الوطنية. كما أن أجهزة الدولة ذات العلاقة، كمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ووزارة التجارة، والهيئة العامة للتجارة الخارجية، باتت تعتمد مقاربات قانونية واستراتيجية في الدفاع عن مصالح المملكة، سواء في المحافل الثنائية أو متعددة الأطراف.
السعودية ليست فقط مستهلكاً للقواعد، بل أصبحت ركناً أصيلاً في تشكيلها عبر عضويتها الفاعلة في منظمة التجارة العالمية، ومشاركتها في صياغة أجندات إصلاح هذه المنظمة بما يضمن عدالة التبادل ومراعاة ظروف الدول النامية. وهذا في حد ذاته تطور مهم يعكس انتقال السعودية من خانة المتلقي إلى موقع الفاعل، مستندة إلى قاعدة قانونية متينة وفكر سيادي متزن.
في النهاية، فإن ما تفعله الولايات المتحدة بقيادة ترمب ليس بالضرورة خروجاً عن القانون، بل هو إعادة توظيف له ضمن رؤية وطنية، وهو أمر يجب أن نتعامل معه بوعي لا بردود فعل. فالسيادة الاقتصادية لم تعد مجرد شعار، بل أداة تُوظف في رسم سياسات الدول وتحديد خياراتها. والسعودية اليوم، بما تمتلكه من رؤية قانونية ناضجة وسياسات اقتصادية متزنة، قادرة على حماية مصالحها دون صدام، والتكيف مع التحولات الدولية دون انكفاء.
وإذا كان من درس يجب استخلاصه من المشهد الراهن، فهو أن القانون لا يفرض هيبته بالقواعد وحدها، بل بالقدرة على تفسيرها وتوظيفها لخدمة المصالح الوطنية. وهذه هي المعادلة التي أتقنتها السعودية، وستظل تتقنها، ما دامت السيادة عندها ليست انفعالاً، بل قرار مؤسس على وعي قانوني وطني ودولي في آنٍ معاً.
أخبار ذات صلة