سعود الصاعدي لـ «عكاظ»: الصرامة المنهجية إيجابيّة ما لم تضيّق حدود الذوق أخبار السعودية
أدعوكم إلى متابعه العديد من الآراء، والقضايا، والرؤى، وكذلك الاختلافات… فإلى نصّ الحوار:
• لماذا ابتداءً توصي الكاتب بأن تكون له مسافة مهمة في لحظة الكتابة؟
•• المسافة في الكتابة الإبداعية تنضج الأفكار، وتمنح اللاوعي بتعبير فرويد مهلة ليعيد التركيب والبناء من منظور الكاتب، وقبل ذلك تهضم الأحداث والأفكار لتجعلها أصيلة في تجربته.
أما في الشأن الاجتماعي أو الثقافي فتمنح الكاتب فرصة ليتريّث ويكتب ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
• أكاديمي ويهتمّ بتقبّل الأذواق المختلفة، والكائنات العابرة، بصدر رحب وخلق كريم.. ألا ترى أنّ هذه الوصايا تتعارض مع كثير من قناعات وممارسات بعض الأكاديميين والمثقفين بشكل عام؟
•• بعيداً عن واقع الممارسة الفعلي، الأصل في الأكاديمي أن يتقبل الأذواق المختلفة تبعاً لسعة معرفته ولتواصله مع الأفكار المختلفة في البحث العلمي، لكن الذي يبدو لي أن الأكاديمي، في بعض ممارساته العلمية والذوقية، قد اكتسب صلابة في الرأي بعدم التزحزح نتيجة لشعوره بموقعه التنظيري في المعرفة، ومثله المثقف الذي يرى نفسه في موضع يعلو على النقد ويتبوأ مكانة لا تتقبّل الاختلاف بسهولة لاسيما في السياق المتعلّق بفضائه وحقله المعرفي والثقافي.
غير أن فضاء التواصل الاجتماعي فرصة سانحة للتواصل الحر والاختلاف الواسع في الأذواق بصدر رحب وخلق كريم لمن شاء ذلك من مرتاديه وقاطنيه.
• لماذا المعرفة اليوم تحتاج إلى الغياب أكثر من الحضور، وإلى الحذف أكثر من الذكر؟
•• لأنّ الوفرة حجاب، والحضور المتواصل غياب، وما يحدث اليوم بسبب وفرة المنصات الإعلامية ووفرة الوسائل ووفرة المطروح في كل حقول المعرفة جعل الحضور المقنن والغياب المنتج والحذف في سياق الصقل والتهذيب هو الأجدى معرفياً والأبقى في ذاكرة الثقافة الجادة، بدليل أن الغائبين المنتجين أكثر تأثيراً في السياق العلمي والمشهد الشعري والثقافي من الحاضرين الذين يتتبّعون مواقع الضوء ومحافل اللقاءات والملتقيات، وينتجون باستمرار دون أخذ مساحة من الصمت المتأمّل.
وهذا ما يجعلني أؤكد على ضرورة عدم استهلاك المعرفة كي لا تشحب وتضمر ويقلّ أثرها على الذوق والسلوك.
• كرة القدم حين يحولها الكاتب من مجرد لعبة إلى فلسفة في الدروب والأزقة والشوارع والمحلات والواجهات.. أنت فعلت هذا في أكثر من مقال ومنشور.. هل كنت تهرب من نعتك بالمتعصّب لنادي النصر مثلاً؟
•• لا معنى لكرة القدم لعباً وتشجيعاً دون خصوم مجازيين تشعر معهم بطعم الفوز والمماحكات البريئة التي لا تخرج عن إطارها الرياضي إلى إطار شخصي أخلاقي.
وفي هذا الجانب أتلقّى كل ما يحدث من ردود أفعال في السياق الرياضي، ولكن هذه الرؤية لم أصل إليها إلا بعد النضج، فلست متعصباً إقصائياً، وإنما ذو انتماء رياضي نبت معه حبّ النصر منذ الطفولة. لا أخفي هذا الانتماء ولا أتحرّج منه، فالنصر بالنسبة لي عشق الطفولة وجنون الشباب النزق، ولكنه مع العمر تحوّل إلى فضاء جمالي ملهم ولحظة استرخاء طويلة ومحايثة للجانب الجاد في حياتي العلمية والعملية، وما يحدث أثناء المباريات لا يتجاوزها إلى شأن الحياة العام، وهو بقية من لاوعيٍ قديم!
لكن الأهم من ذلك كلّه هو كيف نتناول كرة القدم جماليّاً في فضاء الكتابة، وكيف نصنع من هذا العالم الحيوي الصاخب مادة أدبية للتأمل والمتعة القرائية. وهذا ما أسعى إلى الإجابة عنه من خلال مقالات تحاول شعرنة الرياضة وترويض التعصّب بكتابات جمالية تقرأ النص الرياضي في بعده الجمالي والثقافي باعتبار الملعب نصاً مفتوحاً واللاعبين علامات حرة في هذا الفضاء الجمالي البديع.
• أرعبتنا الأساطير ذات زمن، كيف يمكن تحويلها بأقلام المبدعين إلى مخيلة خصبة اليوم؟
•• ما يميز الأسطورة أنها بنية سردية حكائية لا تنقل معنى فحسب، وإنما تنقل حدثاً متخيّلاً يمكن أن يوظّفه الكاتب في التعبير عن حادثة جديدة بطريق الرمز، وهذا يجعل النص أعمق وأفخم وبعيداً عن التعبير السطحي المباشر، كما توسّع الأسطورةُ أفق المخيّلة بما فيها من أحداث عجائبية تجعلها أكثر خصوبة، وأقرب إلى عالم الإبداع المخالف للعالم المنطقي الرتيب.
ولكي نستثمر هذه الأساطير في صناعة الإبداع شعراً وسرداً وسينما لا بد من العودة إلى موروثنا الحكائي والشعبي لإعادة بناء الأساطير من جديد في سياق إبداعي مختلف عن سياقها الأول بحيث نعيد توظيفها في بنية الشعر والرواية بإسقاطات جديدة تعنى بالحاضر بوصف الأساطير حكايات رمزية وعوالم موازية، لا بوصفها حكايات طفولية للتحذير السلوكي أو جلب النوم أو الرعب كما هي عليه في الموروث الشفاهي القديم.
ومن المهم في هذا السياق التأكيد على ضرورة الخروج على التقليد الحداثي في جلب الأساطير من خارج ذاكرة الثقافة العربية والمحلية، وبناء عالم أسطوري أصيل يمتاح من ذاكرتنا ولاوعينا الاجتماعي والثقافي ليكون التعبير أصدق وأعمق وألصق بالأرض وبذاكرة إنسانها وحلمه الإبداعي.
• هل الكتابة بصدق تكفي لبروز الكاتب وتميزه؟
•• للصدق في الكتابة أكثر من وجه. قد يكون الصدق بمفهومه الواقعي المجرد لا يتجاوز النقل الحرفي، بخلاف الصدق مع لحظة الكتابة فهو مهم في إنتاج كتابة يومية تحيل الحدث الواقعي إلى حدث كتابي مميز، إضافة إلى الصدق في التعبير عن هذه اللحظة بعدم تحويرها من بعدها الإنساني إلى مجرد صياغة كتابية مهذّبة بمشرط الضمير الرقابي.
أعتقد أن الصدق بهذا المفهوم يساعد الكاتب على البروز والتميز إذا ما توفّرت لديه مهارات التجويد الأساسية للكتابة.
• الكتابة عن الماضي انشغل بها كثير من الكتاب والمبدعين، كناقد ومبدع في الوقت ذاته، إلامَ تعيد هذا الانشغال؟
•• يبدو انشغال الكتاب بالماضي على وجهين، وجه يتعلّق بالإبداع نفسه باعتبار الماضي شكلاً من أشكال التعبير عن الحاضر من خلال التوظيف الرمزي لأحداث اكتملت في مخيّلة المبدع، ووجه آخر لا يتجاوز الحنين باعتباره محفزاً للكتابة لا أكثر.
وربما كان هذا الانشغال بنوعيه راجعاً إلى طبيعة المرحلة التي عزّزت الانكفاء على الذات بفعل التقنية، فكان التعبير عن الماضي أو بالماضي معاً وسيلة من وسائل مقاومة الزمن التقني وبديلاً عن الواقع المفقود في متاهة الزمن الافتراضي الجديد.
• أنت أكاديمي متخصص في البلاغة، وشاعر تكتب الفصيح والعامي، وروائي، وكاتب مقالة أسبوعية، هذا التعدّد في الكتابة والاهتمام ألا يُشتّت المبدع في داخلك؟
•• كل هذا التعدد حسب وصفك مرجعه حقل واحد هو حقل الأدب؛ وأداته واحدة هي الكتابة، وعلى ذلك فهو في حقيقته ليس تعدداً من حقول مختلفة، رغم أنّي مع وحدة المعرفة مهما تباعدت الحقول، لكن كون الكاتب شاعراً وسارداً وكاتب مقالة ومتخصصاً أكاديمياً في حقل له علاقة وثيقة بهذه الأجناس، كل هذا يجعل من التعدد مجرّد تنوّع كتابي في حقل واحد، والتنوّع أقرب إلى طبيعتي النفسية من الاحتباس في فن واحد وشكل واحد قد يصيب الكاتب بالضمور والسأم والرتابة.
• إلامَ تعيد غياب المجاز في لغة الكتابة اليوم؟
•• إلى تكريس النموذج المادي، بحسب تعبير المسيري، حيث طغت لغة الاقتصاد على لغة الأدب، وغمرنا العالم الرقمي الذي أحالنا إلى نموذج كلي تغيب فيه لغة الشعر، والحلم، والمجاز، لحساب لغة النماذج الدقيقة والاستبانات الإحصائية، واللغة التداولية عبر منصات الحكي، ومع ذلك لا يزال المجاز يقاوم من طريق أدباء الشبكة الذين يعيشون الأدب حالة إبداعية في فضاء الكتابة.
• لماذا تنظر إلى القدامى على أنهم نقاد في الوعي الشعري، فيما تنعت أمثالهم اليوم بالحماة المعاصرين؟
•• النقاد الأوائل أجابوا على أسئلة عصرهم، وانقسموا بناء على أنّ لكل رؤيته وزاوية نظره وطريقة معالجته؛ لذلك أنتجوا لنا جدلية نقدية مثمرة، فحين نقف على نتاجهم دون أن نتجاوزه امتداداً فهنا لا نكون سوى حماة لا بناة، وبرغم أنهما معا ضروريان كلّ في سياقه إلا أنّ بناء المعرفة درجة أعلى من درجة الحماية والحراسة، وفي كلٍّ خير.
• لدينا كتابة ساخرة، فهل لدينا نقد ساخر؟
•• لا نزال نبحث عن النقد الجاد، بمفهومه التقويضي البنَّاء، فإذا تجاوزنا هذا المستوى، ربما نصل إلى وعي أوسع يمنحنا القدرة على ممارسة النقد الساخر وقبوله.
• شبكات التواصل الحديثة هل سبّبت لنا مشكلة في تلقي الشعر؟
•• أراها ساعدت على فتح آفاق التلقي بتجاور الأشكال، فمن لديه وعي جمالي متنوّع سيكون أكثر رحابة واستمتاعاً بما وفّرته الشبكة من تجارب شعرية مختلفة، حيث انتقلنا من حداثة التجاوز إلى حداثة التجاور.
لكن المشكلة ليست في التلقي ذاته أو الذوق أو حتى اختلاف الأشكال، وإنما في الوفرة التي حوّلت الشعر إلى منتَج والمتلقي إلى مستهلك، حتى غابت دهشة التلقّي الأوّل.
• ما تأثير هذا التلقي على الشعر والشاعر؟
•• ما زال للشعر بقية وللشعراء امتداد رغم بؤس التلقي.
• لماذا تريد أن تكون مجازاً مرسلاً في حالة تخييرك بين المجازات؟
•• لأنه متعدد في علاقاته، متنوّع في بدائله، يمنح اللغة طاقة جديدة، فسماؤه تمطر عشباً وأرضه تنبت غيثاً.
• الصرامة المنهجية لدى الأكاديميين هل أفسدت الأدب؟
•• النقد المنهجي بصرامته يصنع النظريات، والنقد الذوقي بمرونته يفتح آفاق النص، والأدب يحتاج إلى النظرية كما يحتاج إلى الذوق الحر؛ لذلك للصرامة المنهجية في حدودها الجمالية أثرها الإيجابي على الأدب ما لم تضيّق حدود الذوق وتحدّ من قدرته على التحليق والرفرفة.
• الطباعة الأنيقة للكتب هل باتت تتفوق على المضمون لدينا؟
•• أعتقد أن الحكم على أنها تفوقت على المضمون ليس حكماً دقيقاً، فالطباعة تقنية محايدة، يمكن أن تكون جزءاً من المضمون، وتمنح القراءة بعداً نفسياً وجمالياً، ويمكن أن تكون مجرد شكل للتسويق الفارغ من المضمون.
• المعارك الأدبية هل ترى أنّ مشهدنا الثقافي بحاجة إليها اليوم؟
•• المعارك والخصومات الأدبية رغم قسوتها إلا أنها منتجة للأفكار والرؤى، وأثرها على الثقافة والأدب والفكر أثر إيجابي، خلافاً للعلاقات الناعمة التي لا تنتج سوى بطاقات الدعوة للملتقيات الأدبية والمحافل الثقافية التي تستهلك إنتاجاً مكروراً وبارداً.