مشاهير يركبون الموجة بالتلوين ويخدعون بالعناوين
يتزايد نهم نجوم «السوشال ميديا» على مقارعة النخب، ومنافستهم في ميدانهم الكتابي والإبداعي، وتتجلى مخرجات رموز العالم الافتراضي في معارض الكتب، مستغلين انجذاب المتلقي للألوان الزاهية والعناوين الجاذبة، دون أي عناية بالمحتوى، فلا تجديد في الأفكار، ولا أسلوب، ولا لغة، وربما تفاقمت هذه الظواهر لتجد قبولاً لدى الناشر الذي يعنيه مزيد انتشار، وفي فضاء المعجبين والمعجبات الذين يتلقون بالرضى والحفاوة كل ما يصدر عن «مشهور» أو «مشهورة».
وتتساءل الأكاديمية العراقية الدكتورة رائدة العامري: لماذا لا توجد متابعة نقدية في الإعلام الثقافي لهذا السؤال الذي يثير حركة إبداعية وتوازناً ذوقياً ومعرفياً؟ في الوقت الذي يبتعد النص الأدبي عن الحس الفني، وافتقار الأحدث للمخيال الجمعي الذي يطبق المنهج بِلا روح على حساب القيمة الجمالية بما يتماشى مع الرؤية الأيديولوجية. وتأسف العامري أن الكتابة أصبحت ملحقة بقوانين العرض والطلب، وعزت ذلك إلى فوضى إبداعية وضبابية في المنجز الأدبي، تتم عبر تغييب الحس الجمالي في تقييم فني لا تقني للنصوص، إذ يندر أن نقرأ في الساحة الإبداعية نصاً أدبياً مكتملاً ذا عمق ووعي دلالي.
وأوضحت العامري أن النص الأدبي يتجلى ببعد لغوي وخيالي ذي حمولة دلالية وجمالية، وبغيابه لن نقرأ إلا نصوصاً فقيرة للغة تعاني من غياب للخيال، بعيداً عن الواقعية والألم الإنساني، نقرأ نصوصاً توثق الحدث إلا أنها لا تبدع، فتتجه إلى العقلانية المفرطة وتهمل الإحساس والعاطفة والشعور، فلهذا لا يعود ثمة فرق بين النص واللعبة، فالكاتب في بناء النص يضع آليات ذات مكنونات تجذب المتلقي إلى زاوية المتعة، ويستقطب المتلقي في غياب الوعي الثقافي للإبداع الأدبي على أسس سليمة للنص. وترى أن النقد يساعد في تقديم آليات محورها مدى تقبل المتلقي النص الأدبي بأنواعه وميوله، كونه ينطوي على شفرات مغلقة للقراءة العابرة، إذ من الضرورة بمكان أن يكون السؤال الثقافي عن فاعلية الأدب والنقد مبنياً على أساس مسؤولية كل من الكاتب والمتلقي في تكوين ثقافة عميقة ذات صلة بالمجتمع من جهة وبالفن الراقي المؤثر من جهة أخرى.
ويرى الناقد الدكتور أحمد سماحة أن الساحة العربية تعجُّ بعشرات المؤلفات لكتّاب تصنفهم من المشاهير في كل المجالات بما فيها النقد والشعر والرواية، ومؤلفات تدفعك إلى التساؤل والدهشة لا عن ضعف المضمون وفنيات العمل فقط، ولكن أيضاً عن سطحية الأفكار وكمّ المصطلحات المقحمة التي لا تضيف قيمة ما إلى العمل، مضيفاً أن المؤلم أننا نجد العديد من الثناءات والدراسات والإشارات عن قيمة هذه المؤلفات أو الكتابات وما أضافته، ما يدفعك للحزن على ما آل إليه المشهد، وما يجعلك تخشى على الأجيال من التأثر بـ«الهلس» الذي يقتل المواهب مبكراً.
وكشف سماحة عن قضية شهدها الفضاء الأدبي في مصر، أخيراً، وحكم فيها القضاء المصري على مؤلف درامي وكاتب معروف بتعويض كبير قارب المليون جنيه؛ لأنه وظف أحداث وأفكار ومشاهد رواية لكاتبة غير شهيرة في عمل درامي نال الكثير من الشهرة.
ويؤكد الدكتور سماحة تأثير ما يطرحه بعض المشاهير، خصوصاً في الإبداع الشعري والروائي على الرأي العام رغم مساوئه وخطورته، كون الكثرة من القراء يعدونهم قدوةً وموجهين، وهذا الأمر يتطلب حركة نقدية فاعلة ومؤثرة تكشف أبعاداً سطحية هذه الكتابات دون مجاملة ودون خوف. وأضاف: يظل تأثير هؤلاء كبيراً، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي التي أضحت مؤثرة مهيمنة.
وتؤكد أستاذ التأليف والكتابة الإبداعية الدكتورة إلهام حمدان أن مثل هذا الإنتاج يصح أن نطلق عليه «ثقافة الساندويتش». وترى أن الإجابة الصريحة عن حقيقة الواقع الثقافي العربي، ستجعلنا نخسر الكثير من أصدقائنا الكتَّاب على الساحة الثقافية، يستوي في هذا القريبون منّا أو الأصدقاء على صفحات التواصل كما يقولون، أو من أصحاب الروايات والكتب التي تخدعنا عناوينها، نتيجة الإعلان بأنها «الأكثر مبيعاً» في المكتبات المتخصصة، أو حتى التي نلتقطها من فوق «سور الأزبكية».
وقالت: لا أنكر أنني وجيلي كنّا من المحظوظين بالاطلاع على كتابات شكسبير ومكسيم جوركي ونيقولاي كازنتزاكس وجون شتاينبك وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ والمازني ومصطفى المنفلوطي وعبدالحميد جودة السحار ويوسف إدريس، وعشنا زمن الشعراء الكبار الذين تركوا البصمة الفارقة على المشهد الثقافي ردحاً طويلاً من الزمن، إلى أن قفز على الساحة العديد من الأسماء التي «استسهلت» التعامل الجريء مع «فعل الكتابة» بأسلوب «الساندويتش» لإرضاء أمزجة جيل من سكان أحياء الطبقة الدنيا الطامحين إلى تخطي عتبات الشهرة وركوب «الترند» بحسب التعبير الشائع الآن بين أوساط مستخدمي صفحات التواصل أو «التكاسل الاجتماعي» بمعنى أدق، وانكب عليها جيل الشباب إضافة إلى «البدعة» التي تتمثل في «وشم» الصدور بصور المشاهير من النجوم، ونسوا أن يكون «وشم الثقافة» محفوراً على تلافيف عقولهم، تلك العقول التي توصلت إلى ابتداع شكل جديد من أشكال الكتابة باللغة العربية المضفورة بالأحرف اللاتينية، وطالت تلك البدعة أيضاً طريقة الكتابة بـ«العاميّة المصرية» التي تعبّر عن روح وأصالة شعب مصر.
وتساءلت: هل ممارسة فعل الكتابة وسيلة أم موهبة؟ وتجيب: واقع ما نراه ونقرأه الآن وما نسمع به، هو أن البعض اتخذ «فعل الكتابة» وسيلة إلى كسب بعض المال دون الاستناد إلى موهبة حقيقية، ربما لملء الفراغ المادي أو العاطفي أو حتى العقائدي والسياسي، وأصبحت الكتابة مهنة من لا مهنة له!
وتضيف: هناك من استشعر بداخله صوتاً يناديه بأن يقوم بتسجيل مشاعره وأحاسيسه الداخلية التي تفرض عليه شكل وأسلوب الكتابة الروائية أو الشعرية، فخرجت إلى النور تلك الدرر التي تسعد القارئ وتؤثر فيه فيتفاعل إيجاباً مع كلمات الكاتب أو الشاعر، وتدفعه إلى ازدياد ثقافته المعرفية لخدمة المجتمع. وترى أن الذائقة تستطيع أن تقوم بعملية «فرز» الغث من السمين، إلا أن عبء الفرز الجيد يقع على أكتاف السادة المعنيين برسم إستراتيجية الثقافة التي تتجه إلى تشكيل الوجدان الشعبي بكل طبقاته، وعلى رأسهم وزارة الثقافة والأكاديميات العلمية بعيداً عن «الحزبيين» كي لا يتم «تأطير» الثقافة في أيديولوجيات حزبية.
طبيعة التلقي الإبداعي تخضع للذائقة
وقال المستشار الثقافي الدكتور خالد خضري إن ما يحدث تحول طبيعي، والتغيير طبيعة كونية، وسنة الحياة. لكنّ هناك أمراً مهماً يتعلق بالثقافة العميقة المنعكسة على المنتج الإبداعي، إذ يجب أن نفصل بين حاجتنا للثقافة العميقة التنويرية التي تسهم في انفتاح العقل، وبين انعكاسها على المنتج الإبداعي، فإذا حدث ذلك الانعكاس، يتحول ذلك المنتج إلى عمل نخبوي محدود التأثير، ويظل في نطاق ضيق جداً من حيث التلقي الجماهيري.
ويرى أن هذا ليس وليد اليوم فقط، بل عبر التاريخ. وطالب بأن نعي أن الثقافة العريقة التي تترجم في الإبداع مسألة نسبية، لأن طبيعة التلقي للأعمال الإبداعية تخضع في الدرجة الأولى للذائقة، فما تراه أنت إبداعاً متفرداً، ربما يراه غيرك خلاف ذلك، ويرى فيه أو في غيره جوانب أكثر إبداعاً.
وقال: باختصار لست مع ما يثار، بل أؤمن أن التغيير قادم وبقوة، وخصوصاً بعد ظهور «السوشل ميديا» والعالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي الذي أصبح هو الآخر ينتج إبداعاً!.