اخبار الإمارات

الأب صميم باليوس… من ضفاف بابل إلى فضاءات العالم: رسالة روح تتسع للإنسان كلّه

في رحلة تمتد من أزقة بابل العريقة، حيث يتعانق عبق النخيل مع أنفاس الفرات، إلى مدارج الجامعات في أوروبا وأمريكا، نسج الأب صميم باليوس مسيرة استثنائية جعلت من المحبة لغةً ومن الإنسانية عقيدةً. كاهن ومفكر وكاتب، جمع بين عمق الروحانية ورحابة الفكر، ليقدّم خطاباً يتجاوز الجدران المذهبية نحو جسور الرحمة والانفتاح. في هذا الحوار، يكشف الأب صميم عن إرث طفولته في مدينة التاريخ، وتجارب تعليمه العابرة للقارات، ورؤيته للعلاقة الجوهرية بين النفس والروح، وكيف يمكن للمحبة أن تكون المظلة الأوسع في عالم يتنازع فيه البشر على الهويات والحدود.

كيف كانت نشأتك في مدينة بابل، وما الذي تركه ذلك الإرث التاريخي والروحي في شخصيتك ورؤيتك للحياة؟

نشأت في بابل، تلك المدينة التي تنام على ضفاف الفرات وتتنفس عبق التاريخ حيث تتداخل الأسطورة مع الحجر، والروح مع القلب، يلف سكانها نسيج المحبة والمودة. كبرتُ مسيحياً بين أخوتي المسلمين، لم تفصلنا المذاهب بل تجمعنا الصداقة والمائدة والضحكة والهم المشترك، بيتي كان كنيسة صغيرة تتسع لكل القلوب النقية. في بابل تعلمتُ أن الايمان ليس جدراناً بل جسور من الرحمة تمتد نحو الآخر.  حتى نهاية المرحلة الابتدائية ظلت بابل هي عالمي، تمدني كل صباح بعطر نخيلها الباسق، وتغرس فيَّ صمت الفجر وإصرار النهر، ومن ارثها حملتُ في شخصيتي شيئاً من صبر الطين وحنين المسافات. وايماناً بأن الانسان مشروع سمو أخلاقي وانساني يحتضن الاختلاف ويرقيه الى درجات الجمال. هكذا تعلمتُ أن الإرث الحقيقي يكمن في طريقة العيش التي تصنعها القلوب المُحبة. ومن هذا المنطلق، أصبحت نظرتي شاملة احتضانية للآخر، مفضلاً الخطاب الإنساني على أي خطاب حصري أو فئوي.

 

عشت مراحل تعليمك بين العراق وأوروبا والولايات المتحدة، كيف أثّرت هذه البيئات المتنوعة على فلسفتك الإنسانية؟

عشت مراحل تعليمي بين افاق متعددة، انطلاقاً من العراق، بلد الحضارات والرؤية المجيدة، الى أوروبا التي فتحت امامي أبواب الفكر والاستنارة الذهنية عبر دراسة اللاهوت، وصولاً الى الولايات المتحدة التي زودتني بأدوات الخبرة النفسية، حيث درست علم النفس الرعوي، هذا المنهج الذي يربط بين الايمان وتقصي حقائق النفس العميقة لأدراك التوازن الداخلي. هذه البيئات المختلفة تركت بصماتها العميقة على فلسفتي الإنسانية، وخدمتي الروحية. وككاهن اعمل في خدمة الله والناس، وجدتُ رسالتي تتجوهر في العمل من أجل الانسان. فأمسى جل اهتمامي الدعوة لإنسانية متجذرة في الرحمة والعدل والاستقامة، وهذا يلامس جميع البشر بدون استثناء، ويضيء دروبهم في عالم أصبح محتضراً بالمعنى والهدف.

 

كيف تشرح لنا الرابط الذي تراه بين البعد الروحي والبعد النفسي في بناء شخصية الإنسان المتوازنة؟

الروح والنفس جناحان يمكّنان الانسان من التحليق في سماء الإنسانية بتوازن خلاق. الروح تمنحه معرفة الاتجاه والنفس تهبه القوة على التحليق. أي اختلال بينهما، سيعاني الانسان من عجز في رسم ملامح الهوية ونكوص في لغة التعبير الحياتية. يتعزز البعد الروحي في فهم الانسان لقيمه الايمانية وعلاقته بالله والعالم من حوله، عبر الصلاة والتأمل. ويغدو ذلك مفيداً في تقوية الذات داخلياً أمام الضغوطات النفسية والقلق وسائر التحديات التي تطرأ على حياته اليومية. لا يبدو العلاج النفسي ناجعاً ما لم يتداخل البعد الروحي في تجهيز الانسان بلغة تجاوزية، تدعوه الى فهم المشكلة نفسياً ومن ثم تجاوزها بوسائل روحية تقدم له المعنى والهدف في الحياة. فالروح تعطي هدفاً معنوياً والنفس تمنح الانسان القدرة على التكيف والمرونة. وهكذا يكون قادراً على التصالح مع أفكاره ومشاعره، وفهم عقده الدفينة والسير في طريق الشفاء الداخلي. ولهذا يبدو الرابط بين البعد الروحي والنفسي جوهري في ادراك التوازن العاطفي والمعرفي والإنساني على حد سواء.

 

ما أبرز التحديات أو الانكسارات التي واجهتك شخصياً، وكيف حولتها إلى قوة دافعة في حياتك ومسيرتك؟

انها كثيرة! ولكني تعلمتُ أن الألم ليس مجالاً للمعاناة فقط بل حيزاً لفهم نعمة الله الداعمة. في الألم تتوفر فرصة للقاء الذات الحقيقية في الداخل. انه حيز يجعلك في مواجهة ذاتك المنكسرة وتطبيبها بالتأمل والتفهم. لا تتولد القوة الحقيقية من قدراتك المعرفية والشخصية، بل من التعرف على ضعفك وهشاشتك في لحظات تشعر بأنك وحيدٌ في قلب المعركة وبدون أسلحة. أكثر التحديات التي مررتُ بها، وما زلت، هي الحروب التي يشنها البعض، ممن يشعر بالانزعاج من خطابي المباشر، او يراني اسرق الأضواء منه، فيلجأ بشكل أو آخر الى تشويه رسالتي، ولكني تعلمت من الهي ان أغفر وأصلي من أجل هؤلاء، وأرفع وجهي الى السماء. فمن هناك أستمد قوة عجيبة على الإستمرار وشق طريقي الصعب رغم كل المقاومات. الانسان الحقيقي لا تصنعه الإنجازات بل التحديات!

 

تكرر دائماً فكرة أن المحبة والإنسانية أوسع من الأديان، كيف يمكن ترجمة هذه الفكرة عملياً في عالم يموج بالصراعات الطائفية؟

هذه الفكرة لا تقلل من شأن الأديان، بل على العكس، تعود بها الى جوهرها الأصلي. الدين وسيلة للاقتراب من الله والآخر وليس أداة للتمييز والاقصاء. فاذا كانت المحبة هي جوهر العلاقة مع الله، فإننا على الطريق الصحيح. اذ يوصي السيد المسيح تلاميذه: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا الى مبغضيكم” (متى٥: ٤٤). المسيح يدعو الى محبة تتجاوز الانتماء، بل تمتد حتى للخصم، وانما هي محبة نابعة من إرادة حرة. أي ان نحب الانسان لكونه انساناً لا لأنه يشبهنا أو يشاركنا معتقداتنا. ولهذا يجدر بنا أن نحترم التنوع ونراه ثراءً لا تهديداً. ونربي أجيالاً على الانفتاح لا الخوف من المختلف. يقول الشاعر البنغالي طاغور: “أين أبحث عنك يا رب؟ أبحث عنك في القلب المحب، في اليد الممتدة، في العين الباكية”. بهذا نذهب الى خدمة المحتاج كأننا نصلي، لأن الله ينحاز للعدل والرحمة وليس للطائفية. أما الكاتب الروحي ريتشارد رور فيقول: ” الله لا يعيش في الانقسام بل في الاتصال. نحن من خلقنا الجدران، والله يكسرها”. نفهم أن الايمان العامل بالمحبة هو ايمان منفتح، يحتضن لا يُقصي، يصغي ولا يدين. وفي النهاية، يجدر بنا أن نتعلم أن الدين ليس هوية ضد الآخر بل دعوة الى التلاقي، وخلق مساحات روحية مفتوحة يتشارك فيها الجميع للتأمل والصلاة من أجل الانسان والعالم. بهذا نجعل الايمان متجذراً في العمق حيث نرى الله في كل انسان، لا فقط في من يشبهنا.

أصدرت العديد من الكتب بالعربية والإنكليزية، كيف تختار موضوعاتك، ولمن تكتب بالدرجة الأولى؟

أحاول في كتاباتي أن أجمع بين العمق الروحي والهشاشة الداخلية وتساؤلات الوجود، فمن خلال دراستي الروحية والنفسية، دوماً ما اسلط الضوء على صرخة الانسان الداخلية التي تصدر عن طفله العميق المجروح. ولهذا أحاول ان أنطلق من الجرح وانتهي بالرجاء. فاهمس في أذن القارئ: ” لست وحدك في الليل بل هناك نور يأتيك، لا من الخارج بل من داخلك”. الجأُ في مرات كثيرة الى أسلوب التورية والايحاء، كي أدفع القارئ الى التحليق في فضاء الخيال وقراءة القلب. فمنذ صغري، تأثرتُ كثيراً باسلوب جبران خليل جبران وطاغور وجلال الدين الرومي وكذلك بالأدب الروسي الذي ولد في رحم المعاناة. لا تستهويني لغة النظريات بل أرغب في إدخال القارئ في مختبر الحياة حيث يتم اختبار وصُنع المعنى في عتمة الصمت. أكتب الى الانسان المتعب روحياً، والى المؤمن الذي يشعر بتزايد الهوة بين الدين والحياة. وألمس في كتاباتي مواضيع مهمة مثل شفاء الانسان الداخلي والايمان الوجودي المُعاش وكذلك تحرير الله من الصور النمطية والتجذر في حضوره الشافي.

 

حدثنا عن أبرز المبادرات أو المهرجانات التي أسستها، وما الأثر الذي تركته في المجتمع المحلي والدولي؟

 

حين وطئت قدماي ولاية ميشيكن، بدأت في تقديم المحاضرات التي كان يؤمها ما يقارب ألفَي شخص، مركزاً بالدرجة الأساس على الطروحات الروحية والنفسمجتمعية. ومن ثم شرعتُ بتقديم برامج إذاعية وتلفزيونية تشمل الكثير من المواضيع. وفي النهاية وجدتُ ان هناك واعزاً ثقافياً يفرض عليَّ أن استغل طاقات الشباب في تقديم العروض الكبيرة. ولهذا قمتُ بتأليف اوبريت الميلاد وكذلك أوبريت الحب. واقمت أربع مهرجانات، شارك فيها خيرة الشباب، وشملت فن الاوبريت والمسرحية بطابع ديني واجتماعي. فكل فن يحمل رسالة وقضية. وما زالت رغبتي قائمة الى اليوم في تقديم المهرجانات والاحتفالات التي تجعل الانسان في تواشج مع حضارته ولغته وتقاليده، خصوصاً في المهجر. كما شاركت في مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي الذي أقيم في إسطنبول – تركيا.

 

أصدرت ألبومي تراتيل، ما الدور الذي تلعبه الموسيقى في رسالتك الروحية والإنسانية؟

الموسيقى بالنسبة لي ليست مجرد وسيلة تعبير بل أداة تجلٍّ، فحين تعجز الكلمة عن الوصول، وحين تصبح اللغة ضيقة على ما يفيض من القلب، تأتي الموسيقى كي تفتح نوافذ الصمت والاندهاش. بالمناسبة أنا عازف كمان، واحاول دوماً في خلوتي ان اتحاور معه من خلال العزف، فهو بمثابة الشخص الذي يصغي الي ويهبني التعزية اللازمة لمواصلة الدرب عبر اللحن الذي ينفذ الى القلب، حاملاً مع احتضاناً لا يوازيه احتضان. وبالنسبة الى الترتيل، ابتغيت أن ادخل في هذا المجال باستحياء من أجل التعبير الروحي، فقدمت البومي تراتيل، ابتعدت فيها عن اللحن التقليدي بل العصري. انها صلوات مغناة تخرج من القلب وتعود اليه دون ان تتوقف طويلاً عند العقل. ما يشدني دوماً عند الترتيل، أن من يسمع الترتيلة في لحظة ضعف، قد يعود من حافة الانهيار، وقد يفتح قلبه فجأة للّه. فما اتمناه من كل ما اقدمه في خدمتي هو أن أصل الى حيث لا تصل الكلمات، وأضيء ظلمة داخلية لا تراها العيون. أن اترك نغمة تذكّر الانسان بانه ما زال حيّاً ومحبوباً ومقصوداً من الله.

 

برأيك، ما أكبر أزمة يعيشها الإنسان اليوم على المستوى النفسي والروحي، وما السبيل لتجاوزها؟

أكبر أزمة يمر بها إنسان اليوم هي الاغتراب عن الله وعن الذات. وأجدها من اعمق المآسي الوجودية التي تفتك بالإنسان بصمت. الاغتراب هو انفصال داخلي يلفظ الانسان من حيزه الداخلي، يعيش ولكنه لا يحيا، يمارس الدين ولكنه لا يلتقِ بالله. فيعاني من أزمة ضياع الهوية (من يكون هو!) وضياع هوية الله في كيانه (من هو الله بالنسبة له!). لقد أسهمت عجلة العلم المتسارعة والتكنولوجيا وارهاصات المجتمع الطارئة في تحطيم منظومة الانسان العاطفية، واسقطته في يبوسة داخلية، جعلت حياته ميكانيكية تحاكي الآلة أكثر من الكيان. شيئاً فشيئا فقد نعمة تحسس ذاته العميقة، وتولد اثر ذلك ذات مزيفة، لا قدرة لها على التأمل أو تحسس جمال الوجود. فاصبح يصلي دون أن يصغي، ويحب دون ان يشعر، ويبتسم دون ان يفرح، حتى بدا ممثلاً بارعاً، يمثل على نفسه وعلى الاخرين، ويصدق تمثيله. بسبب هذا الاغتراب امسى قلقاً، ملولاً، متعباً، فارغ المعنى. وبرأيي، اذا بدأ الانسان في رحلة علاج لهذا الاغتراب عن الذات، سيجد الله في الطريق. واذا عالج اغترابه عن الله، فان الذات ستمتلئ بالروح والحب. لان الله ليس خارج الذات ولا الذات خارج الله، بل يلتقيان في مركز الكيان. يكمن العلاج في التصالح مع الذات المجروحة في العمق، وفي الصمت المتأمل الذي يسقط الأقنعة، حينئذ سيظهر صوت الله في الضمير الحي. اذا كان للإنسان القدرة على مواجهة ذاته والاصغاء لها، فانه سيداوي جراحه بضماد الكلمة الإلهية، ويجد فردوسه المفقود.

بعيداً عن العمل والفكر، ما الأشياء البسيطة التي تمنحك السعادة والسكينة في حياتك اليومية؟

لعل من هذه الأمور البسيطة التي تمنحني السعادة والسكينة هي:

  • تأمل صباحي في الطبيعة. فهناك لغة عجيبة تخاطب الكيان وتدفعه الى أن يجذل حدوده، أمام وردة تتحدث بالجمال عبر الوانها، وتمنح عبيرها لكل من يقف أمامها. انها صورة خلاقة لمعنى العطاء.
  • النظر في عيون طفل. أبلغ ما يمكنني ان أراه. يتسربل من هذه النظرة خطاب البراءة الذي ينأى عن فبركة العقل، فيصدر منها الحب في حلته السماوية.
  • شمعة مشتعلة وصلاة قصيرة. أجد في الشمعة معنى مدهشاً عن البذل. تحرق نفسها وتذوب من أجل انارة الوجود. في هذه الأجواء تظهر صلاة تأملية تهز الكيان وتنفذ الى السماء دون تكلف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى