بفضل المعادن النادرة.. الصين تخرج منتصرة في حربها التجارية مع أميركا

ربما روّج الرئيس الأميركي دونالد ترامب لأحدث اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة والصين على أنه انتصار لأميركا، لكن القادة الصينيين هم من خرجوا منه بروح جديدة ومنتصرين.
وفي حين أن التفاصيل الكاملة للاتفاق الذي توصل إليه المفاوضون في لندن، الأسبوع الماضي، لاتزال طي الكتمان، يبدو أنه يُعيد إلى حد كبير اتفاقية سابقة أُبرمت في مايو، والتي تدهورت بسرعة مع تفاقم انعدام الثقة والتوتر بين الجانبين. هذه المرة تعلمت الصين درساً رئيساً هو قوة نفوذها على الولايات المتحدة، وكيف يمكنها استغلال ذلك لمصلحتها في الأشهر المقبلة.
ويقول الأستاذ المساعد المتخصص في السياسة الصينية بجامعة مدينة هونغ كونغ، ليو دونغشو: «تشعر الصين بأن لديها قوة تفاوضية أكبر مما توقعت في البداية». وخلال الأشهر الأخيرة من الصراعات التجارية، أدركت بكين أن «ترامب ليس بالصرامة التي بدا عليها».
وكانت التصريحات الرسمية الصينية بشأن الاتفاق الأخير أكثر هدوءاً من تصريحات ترامب، الذي كتب على مواقع التواصل الاجتماعي بأحرف كبيرة، أن «الاتفاق مع الصين قد أُبرم»، ووصف كيف ستحصل الولايات المتحدة على المعادن النادرة الصينية مع الحفاظ على الرسوم الجمركية المرتفعة.
لكن من الواضح أن بكين تُدرك جيداً أبعاد الأمر، وكيف أن دعواتها الدائمة «للحوار المتكافئ» مع الولايات المتحدة قد تغيرت الآن.
فإذا كانت واشنطن هي الطرف «المتلهف» للانخراط في المحادثات، وفقاً للرواية الصينية، فإن الجانب الأميركي هو من بادر بالاتصال بالرئيس الصيني، شي جينبينغ، والذي أفضى إلى محادثات لندن.
ولخّص أحد مقدمي الأخبار على قناة «سي جي تي إن»، وهي الفرع الإنجليزي لهيئة الإذاعة والتلفزيون الصينية الرسمية، الأمر بقوله، إن «الدول التي تتمتع بخبرة تزيد عن 5000 عام في إدارة شؤون الدولة، لا تخضع للتنمر، إنها تتفاوض على قدم المساواة، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي تنجح بها الأمور».
ويمثل الاتفاق، الذي يعد «إطاراً» لتنفيذ الهدنة التي اتفق عليها الجانبان سابقاً في مايو، أقل بكثير من إعادة تشكيل العلاقات التجارية الشاملة التي دعا إليها ترامب عندما فرض ما يُسمى بالرسوم الجمركية المتبادلة على الصين ودول أخرى في أبريل.
وصرح مسؤولون أميركيون، الأسبوع الماضي، بأن الاتفاق المبدئي لايزال بحاجة إلى موافقة نهائية من ترامب وشي، ولايزال السؤال حول مدى إلحاح أي مفاوضات أخرى بشأن اتفاق اقتصادي أوسع نطاقاً غير واضح. ويبدو أيضاً أن هذا الاتفاق يُبقي على رسوم جمركية باهظة على السلع الصينية، وهو وضع ستسعى بكين إلى تغييره في الأشهر المقبلة.
وأعلنت وزارة التجارة الأميركية، يوم الخميس الماضي، أنها تسرّع عملية مراجعة تراخيص تصدير المعادن النادرة، بينما أدرجت اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات في البلاد «النيتازينات»، وهي مجموعة جديدة من المواد الأفيونية الاصطناعية، وعشرات المواد الكيميائية الأخرى، بشكل منفصل، ضمن قائمة الأدوية الخاضعة للرقابة. وبدأ ترامب فرض رسوم جمركية على الصين في فبراير، بحجة فشلها في وقف تدفق «الفنتانيل» غير القانوني، وهو مادة أفيونية، إلى الولايات المتحدة.
لكن القادة الصينيين يدركون الآن أن لديهم على الأقل ورقة رابحة واحدة في التعامل مع الإدارة الأميركية: قبضة بلادهم الخانقة على إنتاج المعادن النادرة، وهي عناصر معدنية تُستخرج من المناجم وتُستخدم في كل شيء من الهواتف المحمولة إلى الطائرات المقاتلة.
وأضافت بكين سبعة من هذه المعادن إلى قائمة مراقبة الصادرات ذات الاستخدام المزدوج في أبريل، بعد أن صعّد ترامب الرسوم الجمركية على السلع الصينية. وقد هدد الانخفاض اللاحق في صادرات المعادن النادرة من الصين الصناعات العالمية من الإلكترونيات والدفاع إلى الطاقة والسيارات.
واعتقدت واشنطن أن محادثات 12 مايو في جنيف، حيث اتفق الجانبان على تخفيف الرسوم الجمركية المتبادلة الضارة على سلع كل منهما، ستُمهّد الطريق لحل سريع للقضية.
لكن في غضون أسابيع، بدأ المسؤولون الأميركيون بفرض إجراءات عقابية على بكين، بما في ذلك فرض قيود على مبيعات التكنولوجيا والتهديد بإلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين، متهمين الصين بعدم الوفاء بالتزاماتها بتصدير تلك السلع.
وكان شعور الولايات المتحدة بالإلحاح واضحاً، حيث بدت المعادن النادرة محوراً رئيساً في مكالمة شي وترامب. وبعد محادثات لندن، وافقت الصين على تسريع الموافقات على الشحنات إلى الشركات الأميركية، بينما سترفع الولايات المتحدة الإجراءات التي فرضتها، عندما لم تكن تلك المعادن الأرضية تصل إليها، وفقاً لوزير التجارة الأميركي، هوارد لوتنيك.
وما يمكن أن تستخلصه القيادة الصينية من هذه الحادثة هو أولاً أن لديهم نفوذاً حقيقياً على الولايات المتحدة ودول أخرى من خلال سيطرتهم على المعادن الأساسية، وثانياً أن الولايات المتحدة حساسة في حالة استخدام هذا النفوذ، كما يقول الأستاذ المساعد في معهد شرق آسيا بجامعة سنغافورة الوطنية والمدير القطري السابق للبنك الدولي في الصين، بيرت هوفمان. ويضيف: «أوضحت الأحداث التي تلت اتفاق جنيف أن الولايات المتحدة تبدو أكثر حرصاً على التوصل إلى اتفاق من الصين».
ويقول المحللون إن التأخير الأصلي في الموافقة على صادرات المعادن النادرة ربما يعود إلى مواكبة البيروقراطية الصينية لنظام التصدير الجديد الذي يتطلب الحصول على تراخيص للتصدير إلى أي دولة. وحتى الآن يُنظر إلى بكين على نطاق واسع على أنها لا تنوي تصدير هذه السلع للاستخدامات العسكرية أو تفكيك نظام مراقبة الصادرات الخاص بها كلياً.
ويقول الأستاذ في مركز الصين للأبحاث الاقتصادية بجامعة بكين، ياو يانغ: «بما أن الولايات المتحدة استخدمت ضوابط التصدير بشكل متكرر، فإن الصين مضطرة للرد بالمثل، فبالإضافة إلى المعادن النادرة، تمتلك الصين الآن بشكل متزايد المزيد من (الخناجر القاتلة) الأخرى التي يمكن استخدامها لطعن الشركات الأميركية». ويضيف أنه ينبغي على البلدين التفاوض على قواعد «لإبقاء مراقبة الصادرات مقتصرة على مجالات محددة بدقة».
وبينما يتطلع صانعو السياسات الصينيون إلى المفاوضات المستقبلية مع إدارة ترامب، فمن المرجح أنهم ينظرون إلى الرئيس الأميركي نفسه كورقة رابحة تصب في مصلحة بكين. لقد دخل اختصار «تاكو» (TACO)، الذي صاغته «وول ستريت»، والذي يعني «ترامب دائماً يتراجع»، إلى الخطاب الصيني على الإنترنت. وفي نظر بكين، فإن هذه السمعة، التي اكتسبها ترامب لتغييره السريع لسياساته التجارية الأساسية ووصفه إياها بتكتيك تفاوضي، قد تمنح الصين مجالاً للمناورة.
وهذا ينطبق بشكل خاص إذا كانت الولايات المتحدة تهدف إلى إعادة ضبط شاملة للعلاقات الاقتصادية الأميركية الصينية. وقد يشمل ذلك المطالبة بوصول أكبر للشركات الأميركية إلى الأسواق الصينية واتفاقيات شراء من الصين.
ويقول مدير معهد الشؤون الدولية بجامعة «الشعب» في بكين، وانغ ييوي: «يُغير ترامب رأيه كثيراً، وهذا ليس جيداً للمفاوضات الجادة». ويضيف: «يتفهم الصينيون نفسيته وخصائصه. إنها صفقة كبيرة».
وفي غضون ذلك، لطالما أبدى الرئيس الأميركي إعجابه بالرئيس الصيني شي، واصفاً إياه بأنه «قوي للغاية، ويصعب للغاية إبرام صفقة معه»، وذلك في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي قبل مكالمتهما الهاتفية في وقت سابق من هذا الشهر.
وبعد محادثات لندن، قال إنهما «سيعملان معاً بشكل وثيق» لفتح الصين أمام التجارة الأميركية.
ويوم الاثنين الماضي، أشار ترامب إلى أن انضمام الصين إلى مجموعة الدول السبع المتقدمة ليس «فكرة سيئة»، رداً على سؤال من أحد الصحافيين.
وبالنسبة لبكين، فإن أي فرصة لتقديم الزعيم الصيني على أنه «ند» للرئيس الأميركي موضع ترحيب حار، وهذا ما قاله مدير برنامج الصين في مركز «ستيمسون للأبحاث»، يون صن، ومقره الولايات المتحدة، مشيراً إلى اهتمام الصين بعقد قمة بين الزعيمين هذا العام. وأضاف: «إنها مسألة هيبة، ومسألة صورة الصين كقوة عظمى، و(شي) كزعيم قوة عظمى».
وبغض النظر عن الصورة، لا ترى الصين نهاية للمفاوضات الحالية، فقد أكدت أن المحادثات الأخيرة جزء من آلية حوار أوسع نطاقاً ومستمرة. وحتى مع وصف ترامب للمحادثات بأنها «مُنجزة»، لاتزال القضايا الاقتصادية والتجارية الأوسع نطاقاً التي أثارتها الولايات المتحدة لفترة طويلة دون حل.
في المقابل، صرّح ترامب على مواقع التواصل الاجتماعي بأن الرسوم الجمركية الصينية على الولايات المتحدة ستُحدد بنسبة 10%، مع أنه لم يتضح ما إذا كان هذا الرقم يشير فقط إلى الرسوم الجمركية الجديدة منذ أبريل، حيث سبق لبكين أن فرضت رسوماً جمركية على السلع الأميركية رداً على رسوم «الفنتانيل». ولم يُشكك المسؤولون الصينيون في طبيعة الاتفاق عندما سألهم الصحافيون. عن «سي إن إن»
الرسوم الجمركية الأميركية
لاتزال الرسوم الجمركية الأميركية على السلع الصينية مرتفعة، حيث تبلغ نحو 55%، وفقاً لتقرير ترامب، وهو رقم يشمل الرسوم الجمركية السابقة ورسوم الـ20% التي فرضها ترامب على الصين في وقت سابق من هذا العام رداً على دورها المزعوم في تجارة «الفنتانيل» العالمية، وفقاً للبيت الأبيض.